عبد المجيد زراقط: الوعي سبيلاً للنجاة
يثير عنوان رواية «المصيدة» (دار البيان العربي ـ بيروت) للكاتب اللبناني عبد المجيد زراقط أسئلة عدة، منها: ما هي هذه المصيدة؟ من ينصبها؟ ولمن؟ من وماذا تصطاد؟ نجد إشارة إلى إجابة عن هذه الأسئلة في صفحة الغلاف الأخيرة مفادها أنّ نبيل عامل، المثقف، المتفرغ للعمل الثقافي، والناشط الحزبي اليساري السابق، يقع في مصيدتين: مصيدة «أرقش»، قائد ميليشيا حيِّه، ومصيدة «ثعبان»، كبير العملاء، في قريته المحتلَّة. ونجد إشارة أخرى إلى إجابة، في التصديرين اللذين تبدأ بهما الرواية. ففي التصدير الأول، يسأل صاحب السلطان، هارون الرشيد، شيخ المعتزلة، ثمامة بن الأشرس، وهو إمام الفكر الحر في عصره، بعدما أخرجه من السجن: أخبرني من أسوأ الناس حالاً؟ فيجيبه: عاقل يجري عليه حكم جاهل. وفي التصدير الثّاني، يجري حوار بين سامي الكاتب ونبيل عامل، وهما شخصيتان من شخصيات هذه الرواية. يقول سامي: كنَّا نقول: الحياة مصيدة، الناس فيها صيادون ومصطادون، لكلٍّ شباكه، ما هي شباكك، الآن، يا صديقي؟ فيقول نبيل: لتكن هذه الرواية شباكي، فدائماً، أنا لم أملك سوى قلمي.
الإجابتان دالَّتان على العلاقة التي تقوم بين صاحب السلطان والمثقف، يريد الأول توظيف الثاني في خدمته، وإن أبى، يجعله في أسوأ حال يعرفه الناس، ولمَّا كان المثقف لا يملك سوى قلمه، فإنه يجعل ممَّا يخطُّه قلمه، وهو الرواية هنا، شباكه في هذه الحياة مصيدة الجميع.
الأسئلة التي تُطرح هنا هي: ما هي حكاية هذه العلاقة بين المثقف وصاحب السلطان؟ وكيف تمثّلت روائياً؟
حكاية هذه الرواية، أو وقائعها/ مادتها الأوّلية، المستقاة من المرجع الواقعي، من منظور روائي راءٍ إليه هي: نبيل عامل، مدرّس في مدرسة قريته الحدودية، كان ناشطاً حزبياً يسارياً، ومتعاوناً مع المقاومة الفلسطينية. بعد قيام الحرب اللبنانية، يتفرَّغ للعمل الثقافي، ومتابعة دراسته الجامعية. عندما اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان الجنوبي عام 1978؛ هُجِّر من قريته إلى بيروت. فأقام في حيٍّ شعبي، وعمل محرِّراً في دار نشر «الكاتب» التي يديرها صديقه ورفيقه القديم سامي الكاتب، ومُدرساً في ثانوية خاصة، إلى جانب عمله في المدرسة الرسمية التي التحق بها هو وعدد كبير من زملائه المهجّرين. ثم عمل رئيساً لقسم الطباعة في مركز الأبحاث.
لما اجتاح العدو الإسرائيلي لبنان عام 1982، واصل عمله في مركز الأبحاث، في ملجأ، وغادرت أسرته إلى القرية. عندما حدثت مجزرة صبرا وشاتيلا، تطوَّع في الدفاع المدني، ودخل المخيم، فخطفه كبير العملاء، واقتاده إلى قريته. كان هذا زميلاً له في دار المعلمين، وفي التعليم. طُلب منه أن يعمل معه، فماطله. في هذا الوقت، عرف أنَّ بيته في بيروت سُرق ثم أُحرق، فعادت أسرته إلى بيروت، لتتفقّده وتصلحه. ثم هرب هو من القرية بمساعدة المقاومين، وعاد للعمل في دار النشر، وتدبَّر أمر شراء شقة في حي آخر بقرض من الإسكان. وفيما هو يدهن الشقة، اقتحمها مسلحو ميليشيا الحي، واقتادوه إلى معتقل «أرقش» الرهيب. يجري تسوية معه بوساطة الكاتب بالعدل، ويخرج من المعتقل. يعطي سامي الكاتب دفتراً كتب فيه فصولاً من روايته، ويطلب منه أن يستكتب من يسأل عنه، ويختفي. يلبِّي سامي طلب رفيقه وصديقه، ويكتب هو ما يعرفه، ويصنع هذه الرواية.
تتخذ الحكاية بنية تتتابع فيها الأحداث مُتسلسلة في مسار الزمن الطبيعي، غير أنَّ الرواية تتّخذ بنيةً تجريبيّةً يتكسّر فيها الزمن ويتعدّد، ويرويها رواة متعددون، فتبدأ ممَّا قبل النهاية. يروي سامي الكاتب، في الفصل الأول أنَّه أعدَّ رواية صديقه ورفيقه المختفي نبيل عامل. ثم يروي نبيل عامل قصّة اقتحام المسلحين لشقته، وهو يدهنها، واعتقاله وتوجيه تهمة العمالة له: اشترى الشقة من ساكنها الفلسطيني ومالكها الانعزالي، وسرق بحث فواز الساطع، مستشار أرقش الثقافي. يحقِّق أرقش معه، ويخبره بأنه سيستقدم شهوداً. يواصل نبيل روايته، في معتقله الخانق، وهو بين اليقظة والإغفاءة، فيتابع من على شاشة لا يُعرف ما إذا كانت حقيقية أم متوهَّمة، شهادات أولئك الشهود، فتتشكّل مشاهد غرائبية، تبدأ بإطلالة وحش غريب لا تروِّضه الحكاية، ثم يطلُّ الشهود، واحداً بعد الاَخر. يدلي كلٌّ منهم بشهادته، وهم: أمين صويلح، صاحب أول بيت استأجره نبيل، وهو تاجر أسلحة ومخدّرات، وكسَّاب، صاحب ثاني بيت استأجره نبيل، وهو موظّف كبير فاسد، أثرى بعد فقر، والاثنان يرتبطان بعلاقات مصلحية مع أرقش، وفلاح الطّاهر، ناظر الثانوية الخاصة، وفريد علام مدير المدرسة الرسمية، وعوني صلاح، مدير مدرسة خاصة، وهؤلاء الثلاثة يعرِّفون بحال التعليم المتردِّية، وفهيم التايه، رئيس القسم الثقافي في جريدة معروفة. يستولي هذا على مجموعة قصص نبيل، ويبيعها باسم مستعار، هو الاسم الذي يوقّع به مقالاته، لجريدة خليجية، وسليم مكرم، مدير تحرير مجلة أدب أطفال، الذي يكشف مكيدة دبَّرها كاتب ورسام تفضي إلى مقتل نبيل، والاثنان يعرِّفان بحال الصحافة الثقافية، وهاني الربيع، رئيس قسم الطباعة السابق في مركز الأبحاث، المثقف الحقيقي، وصفية عالم الباحثة في المركز، المحبَّة، وأرقش الذي يملي ويكتب له فواز، وزاهي الفالح، الصديق، الذي تكشف شهادته الواقع الميليشيوي الطائفي والمذهبي، وأكرم سعيد، الصديق، الذي تكشف شهادته بؤس واقع العلاقات الاجتماعية: زيف الصداقة، وعماد الناعم وفريدة كامل الموظفان في المركز، ونبيل الذي يصوّر واقعة مجزرة صبرا وشاتيلا، ويروي قصّة خطفه وتحقيق العملاء معه، وإيمان سالم، زوجة نبيل، التي تروي قصة عودتها من القرية لتجد بيت الأسرة، وقد سرقته ميليشيا الحي وأحرقته، وسلمى صوان، المدرّسة، التي أحبها أرقش ورفضته، وتروي قصة محاولات ثعبان للنيل منها، وشاكر العنبر وفواز الساطع خصما نبيل، ومدبِّرا المكائد له، والكاتب بالعدل، مدبِّر التسوية، وسامي الكاتب الذي يروي الفصل الأخير، وفيه يثور أرقش، لكنه لا يجرؤ على النيل من الشيخ الذي ساعد نبيل، لأنَّ هذا حماه من قبل، ولا على سامي والكاتب بالعدل لارتباط مصالحه بهما.
يحدث هذا على مستوى البنية العامة، ويحدث التكسر الزمني على مستوى الفصل، فلو أخذنا الفصل الأوّل، على سبيل المثال، لرأينا السرد يبدأ في الزمن الحاضر: إعداد الرواية، ثم يعود إلى الماضي القريب: اقتحام نبيل مكتب سامي وإعطاؤه الدفتر، ثم يعود إلى الحاضر: الاستكتاب، ثم يعود إلى ماضٍ بعيد: غياب نبيل عندما كان في المعتقل، ومعرفة شاكر العنبر بذلك، فإلى الماضي الأبعد: غياب نبيل في القرية، فالأبعد: مشروع تحقيق دواوين شعر الشعراء غير المنضوين في خدمة السلطان، فعودة إلى الحاضر: اختفاء نبيل، والسؤال :أين هو؟ وتُترك النهاية مفتوحة، ليجيب القارئ عن هذا السؤال.
هذه البنية تجريبية يتكسّر فيها الزمن ويتعدَّد، كما يتعدَّد الرواة، فتتشكّل حوارية، ويبدو كأنَّ المثقف الساعي إلى الخروج من مصيدة السلطان، بدءاً من مصيدة الحزب/ المؤسسة والمشاركة في الحرب، شبكة تصطاد الواقع الغريب، الذي يستبدّ فيه أصحاب السلطان الفاسدون، بجميع أنواعهم، بالوطن وأبنائه ويحوِّلونه إلى مكان غير صالح للعيش.
إنّ الوقوف على أبعاد الرواية، يدفعنا للقول: إنّها تستثمر الكلمة استثماراً خاصاً، لتبدع نصاً هو مزيج من الرؤيتين: الآنية والماضوية، ليؤكد زراقط أنّ الحاضر الذي نعيشه ما هو إلا امتداد قسري للماضي ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. فإنسان هذا العصر – بمكائده وشروره وعنجهيته وأساليبه الملتوية- ما هو إلا ذئب طليق، مع فارق بسيط أنّ هذا الذئب لا بدّ من أن يتربّص به صيّاد ماهر، وفي ذلك دعوة إلى اتخاذ الوعي سبيلاً للنجاة.