عبدالله النديم .. تجديدات عروضية في أزجاله
ولد عبدالله النديم، في عام 1843 بكفر عشري، قسم مينا البصل بالإسكندرية، لأب بسيط الحال، يعمل فرَّاناً، ويتسم بحُسن الخلق والكرم الوافر يدعى مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسني، ويتصل نسبه بالحسن السبط.
وكان شأن النديم شأن عامة أولاد الشعب في حظّه من التعليم؛ إذ أرسله أبوه إلى كُتَّاب صغير على رأس الحارة، أظهر فيه تفوقاً ملحوظاً، ثم إلى مسجد الشيخ إبراهيم باشا، بحي الجمرك بعد انتقال الأسرة إلى هناك، وفيه تلقى دروس اللغة والفقه، وحفظ القرآن الكريم قبل أن يتم التاسعة من عمره. ولكن هذا الفتى سرعان ما ضاق بما حُدّد له فانصرف تاركا ًالدراسة في المسجد ليتفرج على المقاهي، ويقف عند المشاجرات، ويتابع الأدباتية، ثم يعود بمحصول وافر من القوافي، والأزجال، والسخريات، والنكات، ينتقل من حال إلى حال متصعلكاً باحثاً عن شيء يريده ولا يعرفه، وعن هدف يبتغيه ولا يحدده.
ثم يترك النديم الإسكندرية كلها، ويبدأ حياة مليئة بالسياحة والمشاهدة والخبرة؛ فلقد ذهب إلى القاهرة ليعمل في وظيفة “تلغرافجي” في القصر العالي الذي كان يقع في جاردن سيتي وتسكنه والدة الخديوي إسماعيل؛ فانتقل فجأة من حواري حي الجمرك إلى ردهات قصر إسماعيل، ومن مجتمع أبناء البلد وعمال البحر والحشاشين والنساء المكدودات إلى عالم الأمراء والأغاوات والمحظيات، ولكنه سرعان ما يخطيء، ويتشاجر مع خليل أغا رئيس أغاوات القصر، فيجتمع عليه الأغاوات يضربونه ضرباً مبرحاً، ويطرد ابن البلد من القصر.
ثم يبدأ رحلة أخرى من الترحال والصعلكة في دروب الحياة مروراً بمدينة الدقهلية التي كان يعلم بها أولاد العمد ثم يفتتح دكاناً في المنصورة يبيع الخردوات، ثم يذهب إلى طنطا وفي أحد أيام المولد الأحمدي كان يجلس ومعه طائفة من أصحابه، منهم علي السيد علي أبوالنصر الشاعر، والشيخ أحمد أبوالفرج الدمنهوري الأديب الماجن، قطع عليهم اثنان من الأدباتية.
والأدباتية طائفة من الشحاذين يستجدون بأدبهم العامي وطلاقة لسانهم في الشعر، وحضور بديهتهم، عُرفوا بالإلحاح في الطلب، فإذا رددتهم بأي رد أخذوا كلمتك على البديهة، وصاغوا منها شعرا ً يدل على استمرارهم في طلبهم، وسموا “أدباتية” جمع “أدباتي” وهي لفظة سخرية لأديب، فمر هذان الرجلان من طائفة “الأدباتية” على الحاضرين حتى وصلا إلى عبدالله النديم؛ فقال أحدهما:
أنعم بقرشــــــك يا جندي ** وإلا أكسينا أمـــــــال يا أفندي
أحسن أنا وحياتك عندي ** بقى لي شهرين طوال جوعان
فأجابه عبد الله النديم على البديهة:
أما الفلــــوس أنا مديشي ** وأنت تقــــــــول لي ما مشيشي
يطلع علىّ حشيــــــــشي ** أقــــــــوم أملَّص لك لـــــــودان
فردّ “الأدباتي” وردّ “النديم”، وظلا كذلك نحو ساعة، غُلب الأدباتي فانصرف مهزوما. وتصل هذه القصة إلى مسامع شاهين باشا كنج مفتش الوجه البحري ـ وكان من هواة ومشجعي أدب “الأدباتية” فيضحك كثيراً، ويدعو النديم إلى مساجلة عنيفة بينه وبين كبار الأدباتية والزجالين.. تُعقد المساجلة في سرادق كبير يقام لذلك خصيصا، ويخرج منها النديم، الأدباتي الهاوي، فائزاً على المحترفين!
على أن هذه الصعلكة تذهب عنه حين يعرف الطريق إلى قهوة “متاتيا” في القاهرة، في ميدان العتبة الخضراء، إذ يرى جمال الدين الأفغاني جالساً هناك كل مساء يوزع أفكار الثورة وقد جلس حوله عشرة أو عشرون من التلاميذ. هذان المتجاوران سوريان قد حملا إلى مصر بذور الثقافة الحديثة: أديب اسحق وسليم النقاش. وهذا الرجل المفتول الشوارب هو سامي البارودي الذي سيلعب دوراً رئيسياً في الثورة العرابية بعد سنوات، وهذا الشيخ الشاب القصير وهو محمد عبده. أما هذا الطالب الأزهري الطويل القامة، فاسمه سعد زغلول، سيقود ثورة أخرى بعد عشرات السنين في سنة 1919، وسيصبح أول رئيس وزارة ينتخبه الشعب.
ومن هنا ارتفع النديم إلى مرتبة الأدباء ذوي الرسالة، وقد كان له دور مؤثر في الأحداث السياسية في البلاد، فقد تعرض بقلمه للخديوي إسماعيل ونبه الشعب إلى فساد تصرفاته وعبثه بأموال البلاد.
ولقد وقف إلى جانب عرابي في ثورته وخطوته المناهضة للخديوي توفيق الذي كان لعبة في يد الإنجليز.
ولقد أصدر النديم ثلاث مجلات وهي “التنكيت والتبكيت”، و”اللطائف”، و”الأستاذ”.. كما أسس جمعية علنية هي “الجمعية الخيرية الإسلامية”، وأنشأ لها مدرسة.
وقد نفيّ ـ بعدما ظل هاربا ً من قبضة الإنجليز لمدة تسع سنوات ـ إلى يافا ثم عاد في عهد الخديوي عباس الثاني الذي عفا عنه عام 1892 ثم نفيّ مرة ثانية إلى يافا ومنها إلى استانبول، ثم أدركه الموت بعد ما تمكن مرض السل من صدره، ليلة الأحد العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 1896 في منفاه بالأستانة، وقد تقدم جنازته أستاذه العلامة جمال الدين الأفغاني.
ورحل النديم مودعاً هذه البلاد بجسده وتاركاً فيها خطواته وأفكاره وشعره وزجله، وأعمالاً كثيرة ومنها فضلاً عما تقدم ذكره كتاب “كان ويكون” الذي يعرض فيه آراء في الدين واللغة والسياسة والحياة، وأيضا من كتبه الشهيرة “الاحتفاء في الاختفاء”، و”اللآليء والدرر في فواتح السور”، و”البديع في مدح الشفيع”، و”في المترادفات”. هذا بجانب أكثر من سبعة آلاف بيت شعر وروايتين هما “الوطن”، و”العرب”.
ولكنه، أي هذا الوزن العروضي الجديد، يُعد نهجاً عروضياً جديد السمع والظهور. ولقد استطاع به أن يتبنى قضية هذا الشعب ويبرزها ويسخر من الأوضاع الفاسدة للحاكم والإنجليز ويلفت نظر الشعب إلى الثورة وأفكارها ويلهب حماس كل مواطن ضد هذا الفساد.
ومن أشهر ما كتب على هذا النهج، هذا الزجل الذي يقول فيه:
أهل البنــــوكا والأطيـان ** صاروا على الأعيان أعيان
وابن البلد ماشي عريان ** ما معــــاه ولا حق الدخــان
شرم برم حالي تعبان
ونلاحظ هنا هذا الإيقاع “مستفعلن فعلن فعلن”، وقد جاء في خمسة أشطر تكرر بعد ذلك مع ثبوت الشطر الخامس “شرم برم حالي تعبان” هكذا:
يا ما نصحتك يا بنـــــــجر ** وقلت لك إوعى تفنـــجر
فضلت تسـكر وتفنــــــجر ** لما صبح بيتك خربـــان
شرم برم حالي تعبان
وان كنت حرفي أو نحوي ** والعلم في ذهنك محـوي
قالوا انا انا بوزي ملوي ** يقول لنا عمرو وزيــدان
شرم برم حالي تعبان
وان كنت صـــانع متفنن ** قالـــــــوا اخينا دا اتجنن
وبعد ما كــــــان بيدندن ** صبح يقول شغلي ألـوان
شرم برم حالي تعبان
ومن هذه المقتطفات نلاحظ ما لعبدالله النديم من سبق وتميز في استخدام هذا الإيقاع العروضي الذي يجسِّد ما يريد من معنى ويسخر منه، حتى أن الشعب كان من السهل أن يحفظ أزجاله وينقلها عنه ويرددها، ولقد نهج الزجالون من بعد النديم هذا النهج العروضي ونسبوه إليه.
أيضاً لعبدالله النديم استخدام عروضي آخر يُعد من الاستخدامات العروضية المستحدثة والرائدة في كتابة فن الزجل، عندما كتب:
اسمع حكاية تهدي الشوق ** لابن الذوق ** وتعجب الإنسان والجان
فالوزن المستخدم هنا على ثلاث شطرات في بيت واحد هكذا:
مستفعـــــلن فعلـــــــن فعلــــن ** فعلن فعلن ** مستفعلن فعلن فعلن
وعبدالله النديم بهذا لم يبدع فقط في الصياغة الزجلية الموضوعية ولكنه استطاع أن يبدع أيضاً في الصياغة العروضية الجديدة على الأسماع في هذا الزمان الذي عاش فيه.
رحم الله عبدالله النديم الذي كان رائداً في التجديد العروضي لفن الزجل كما كان نبراساً وقنديلاً في الحياة السياسية والاجتماعية.
ميدل ايست أونلاين