عراقة بلا حداثة

لا يهمّ أن يكون معرض بيروت للكتاب واحداً من أعرق معارض الكتب عربياً. العراقة اليوم لم تعد تكفي وحدها لتصنيف معرض في خانة الصدارة. وفي شأن معرض بيروت، لم تعُد هذه العراقة حافزاً على مواكبته الحداثة التي شهدتها أخيراً بضعة معارض عربية للكتاب في جريرة محاكاتها معارض عالمية مثل معرض فرنكفورت. وبات من الصعب المقارنة بين معرض بيروت ومعارض عربية طوّرت نفسها تقنياً ومعلوماتياً لتلتحق بركب الثورة الحداثية في عالم الكتاب و «عرضه»، ولو ظاهراً. ليس المهم هنا حجم بعض المعارض العربية ووفرة عدد الناشرين، ومعروف أن معرض القاهرة لا منافس له في هذا القبيل، ولا ضخامة البرنامج الثقافي المرافق، وهذا العام بلغ معرض الشارقة رقماً غير معهود في عدد اللقاءات والندوات، علاوة على دعوته كتّاباً عالميين. وليس المهم أيضاً منافسة التكنولوجيا عالم الورق، كما يحصل في معرض أبوظبي، وليس استحالة بضعة معارض حيزاً عالمياً لحركة النشر والترجمة وتبادل العقود بين الناشرين الأجانب والعرب، وعرض الخبرات التي فرضتها حداثة قطاع النشر في أوروبا وأميركا وآسيا. معرض بيروت أضحى خارج هذه المعايير التي بدت تسم معارض عربية كثيرة، وما زال يحافظ على طابعه «التقليدي» إن جاز القول، غير مكترث بما طرأ أخيراً على عالم النشر والعرض عالمياً وعربياً، مثله مثل معرض سورية والكويت واليمن…

لم يتطور معرض بيروت، بل لعله يصر على عدم تطوير نفسه. هذا معرض أهلي وفرادته ترسخت في صفته الأهلية. حتى الناشرون العرب الذين اعتادوا المشاركة فيه، غدوا قلة قياساً إلى سائر المعارض العربية، ودأبوا على إرسال موزعين «معتمدين» لهم. الأسباب معروفة طبعاً، وأولها أحوال لبنان الأمنية المتدهورة منذ أعوام وما ينجم عنها من مخاوف وأخطار. وثانيها تراجع حركة الإقبال على شراء الكتب في بيروت تبعاً للظروف الاقتصادية الصعبة التي تشهدها البلاد، ناهيك عن أن اللبنانيين لا يعدون من الشعوب القارئة، وزاد من فداحة تراجع الكتاب رواج ظاهرة الإنترنت، وهو انعكس سلباً على قطاع الصحافة اللبنانية التي تشهد أزمة رهيبة بعيد تراجع القراء تراجعاً فاضحاً. ويؤكد هذا التراجع انخفاض أرقام مبيع الصحف الى درك لم تعرفه الصحافة سابقاً في لبنان. وأحد الأسباب أيضاً انحسار عدد الزائرين العرب الذين كانوا يُقبلون على شراء الكتب وفي حسبانهم أن بيروت لا تزال عاصمة الكتاب العربي. أما المواطنون السوريون الذين لجأوا الى لبنان هرباً من مآسي الحرب، فهم في معظمهم غير قادرين على توفير لقمة العيش في بلد يرزح تحت نير الغلاء.

معرض بيروت موعد سنوي ينتظره الكتّاب والقراء والناشرون. بات المعرض فسحة لا بد منها في هذه المدينة التي ما برحت تتغرب عن نفسها وعن ذاكرتها. هذا وجه من وجوه بيروت الأليفة، بيروت الحقيقية التي لم تقو عليها حتى الآن قوى الظلام والأيديولوجيات الأصولية. مضى وقت لم يُمنع كتاب في بيروت، لكنّ هذا لا يعني أن الرقابة ليست ساهرة، وأنّ أعين المراجع مغمضة. قبل أيام مُنع فيلم إيراني «معارض» من العرض في مهرجان سينمائي نزولاً عند رغبة جماعة إيران في لبنان. ولو صدر كتاب يزعج هذه الجماعة وسواها لمنع للفور. لكنّ ميزة الرقابة في لبنان أنها لا تَمنع من تلقاء نفسها بل تنتظر إيعاز المرجعيات فتلبي. هذا الجو من فوضى الحريات الناجمة عن التركيبة اللبنانية نفسها، هو الذي يشجع ناشرين كثراً على العمل في بيروت وفتح دور لهم، علاوة على تحمّس «شركات» ومؤسسات عربية شبه رسمية أو مدعومة لإطلاق مراكز أبحاث ونشر. يشعر هؤلاء بمقدار من «الأمان» الثقافي، إن أمكن القول، والحرية في لبنان، على رغم الاضطراب الأمني ووجود سلاح أيديولوجي خارج خريطة الدولة. وفي هذا الصدد يمكن القول إن بيروت ما زالت عاصمة النشر العربي رغماً عن الأحوال السيئة التي تشهدها.

بيروت تطبع ولا تقرأ؟ لعل هذه المقولة القديمة ما زالت سائرة، ومعظم الناشرين الذين يشاركون في معرض بيروت يعلمون انهم لا يبيعون ربع ما يبيعون في معارض أخرى، لكنهم يصرون على المشاركة في معرض بيروت. هذا ضرب من «البرستيج» الثقافي، عطفاً على إمكانات الشراء بالجملة، كما يرى بعضهم. بيروت واجهة جميلة للكتاب، الكتاب العربي والفرنسي والإنكليزي… واجهة بواجهتين، ظاهرة وخفية. كل كتاب عربي يُمنع يُباع هنا بالخفية، أو تحت الطاولة كما يقال. ومكتبات بيروت، ولو أمست قليلة، هي أشبه بمعرض دائم، لا سيما للزائرين العرب.

عاماً تلو عام يشــيخ معرض بيروت شكلاً ويتأخر عن ركب معارض عربية عدة. برنامجه الثقافي المرافق أهلي و «محلي»، وفي أحيان يبدو أقرب إلى «البازار» المفتوح أمام كل «البضاعات» والمنادين بها. ولم يسع المعرض الى دعوة كاتب أجنبي ولو مرة، علماً بأن حركة الترجمة لا تهدأ. وعلى رغم كل المآخذ التي تؤخذ عليه، يظل هذا المعرض إحدى الفسحات القليلة الباقية للكتاب في بيروت. فسحة فيها من الذكريات ما فيها من الحنين والدفء والأمل.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى