عزاء الحياة

عرّف الكاتب مارك توين الحياة واختصرها في كونها “صديق جيد وكتاب مفيد وضمير هادئ”.

وخصص أبو حيان التوحيدي كتابا كاملا في الصداقة والصديق، ضم فيه نفائس ما قيل حول هذا المفهوم السرمدي للمشاعر الإنسانية بمعزل عن المصالح الظرفية، نذكر منه ما قاله أحدهم في صديقه “، أرى الدنيا بعينه إذا رنوت، وأجد فائتي عنده إذا دنوت، إذا عززت به ذل لي، وإذا ذللت له عز بي، وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة، وإذا تصامتنا تناجينا بلسان الثقة، لا يتوارى عني إلا حافظاً للغيب، ولا يتراءى لي إلا ساتراً للعيب”.

يقول خليل وهو موظف تونسي في الخمسين من العمر: الصداقة تشكل ثُلث العلاقات الاجتماعية في حياة الإنسان؛ فيومه ثلث للعمل وزملاء العمل، وثلث للأسرة والبيت والعائلة، وثلث للأصدقاء.

ويضيف أحمد، جليسه في المقهى، بأن الصداقة تجمعه مع خليل منذ مقاعد التعليم الابتدائي، وتستمر إلى اليوم، فهو يعتقد أن الإنسان الذي يفتقر إلى صديق في حياته، يجب أن يراجع طبيبا نفسيا، وكل ما يقال عن مسألة المصلحة، هو أمر موجود عند جميع البشر، وفي كل زمان ومكان، ولا يجب أن يلغي هذا الأمر وجود الصداقة التي هي مسألة أقرب إلى الغريزة في الذات الإنسانية، ويختتم أحمد الحديث بقوله ” فلو كنت أعيش في جزيرة مهجورة لأعلنت صداقتي على البحر والسحاب والطيور والأسماك”.

الكثير من المفكرين والكتاب، يقدمون الصداقة على غيرها من العلاقات الإنسانية، فهي أكثر بقاء ومتانة من الروابط العاطفية التي يتأسس الكثير منها على مشاعر الإعجاب أو الغريزة، ويذهب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، إلى القول بأن فشل المؤسسة الزوجية، يعود إلى انتفاء الصداقة بين الزوج والزوجة.

الصداقة تمتّن وترمّم كل العلاقات الأخرى، فهي ضرورية مع الأبناء في المنزل، والزملاء في العمل، إذ لا تبنى أي ثقة بمعزل عن الإحساس بالصداقة مهما كان حجمها.

دراسات علمية كثيرة أثبتت أن الصداقات الجيدة تعزز شعور الفرد بالسعادة والسرور عموماً، أما حياة الوحدة وانعدام الدعم الاجتماعي، فيؤديان إلى زيادة مخاطر الإصابة بالأمراض الخطيرة والمزمنة، وقد أطلق على شبكة الصداقة تسمية “لقاح سلوكي” الذي من شأنه أن يعزز كل من الصحة الجسدية والعقلية.

كما أن الأصدقاء الجيدين يشجعون أصدقاءهم على اتباع أساليب حياة صحية أكثر، وعلى طلب المساعدة وتقديم الخدمات عند الحاجة إليها. ويعززون مهارات التأقلم مع المرض والمشاكل الصحية الأخرى.

الصداقة مجدتها كل العقائد والثقافات ونبهت إلى أهميتها الديانات السماوية دون استثناء، من الآيات والأحاديث في القرآن إلى الكثير من المقولات الواردة في الإنجيل كعبارة ” الصديق الأمين دواء الحياة والذين يتقون الرب يجدون” العشرة الطيبة بمثابة الكنز الذي يورث للأجيال، وهو ما يفسر قول معاوية بن أبي سفيان ” المودة بين السلف ميراث بين الخلف”، وهو ما يفسر التركيز على جانب الصداقة حتى في علاقات الدول ببعضها، وإن اعترض الكثير تحت ذريعة أن السياسة لا تعترف بالصداقات، لكن التاريخ القديم والحديث، يثبت أن الصداقة لعبا دورا كبيرا في إطفاء الفتن والحروب، ومنع الكوارث التي يمكن أن تحلّ بشعوب كثيرة، ثم جاءت الصداقات الشخصية فأنقذت ما يمكن إنقاذه.

الصداقة تجعل الحياة مبهجة، والأحاديث ممتعة، والهدايا مفرحة، وهي تكاد تكون العلاقة الاجتماعية الوحيدة التي يختارها المرء بمحض إرادته، وبعيدا عن المصالح والحسابات الضيقة.

ورد في كتب التراث أن الجاحظ قال: كان ابن أبي دواد إذا رأى صديقه مع عدوه قتل صديقه، فرد عليه أبو حامد المروروذي: هذا هو الإسراف والتجاوز والعداء الذي يخالف الدين والعقل، لعل صديقك إذا رأيته مع عدوك يثنيه إليك، ويعطفه عليك، ويبعثه على تدارك فائتة منك، ولو لم يكن هذا كله لكان التأني مقدماً على العجل، وحسن الظن أولى به من سوء الظن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى