عزيز نسين في مئويته
كانت محض صدفة أن تحطّ بي الطائرة في مطار إسطنبول في اليوم السابق للذكرى المئوية للكاتب التركي عزيز نسين (1915-1995) لأرى الصحافة قد سبقت إلى تغطية الاحتفالات التي بدأت في إزمير وانتقلت بعدها الى اسطنبول لتعيد الاعتبار الى هذا الكاتب المعارض والملاحق والمبدع الذي تُرجمت حوالى نصف كتبه التي تفوق المئة الى اللغة العربية بعلم المؤلف أو بلا علمه.
بدأت الاحتفالات في إزمير بتنظيم من البلدية، وهو أمر له مغزاه الكبير بالنسبة إلى الكاتب الذي كان ملاحقاً ومعتقلاً من حين الى آخر… بدأت يوم الجمعة 18 كانون الأول (ديسمبر) بمناسبة «مهرجان ازمير للفن الساخر» الذي عقد في «مركز عدنان سايغون للفنون» وتضمّن حلقات نقاشية وعرض فيلم وثائقي عنه. كانت الحلقة الأولى النقاشية بعنوان «من ماركو باشا الى عريضة المثقفين» التي تناولت فترة مهمة من حياة عزيز نسين والكتّاب في تركيا وعلاقتهم بالسلطة العسكرية. والمقصود هنا جريدة «ماركو باشا» التي أصدرها عزيز نسين مع الكاتب صباح الدين علي في خمسينات القرن الماضي ولكن سرعان ما سجنته السلطات بسبب مقال انتقد فيه هاري ترومان وأغلقت الجريدة، على حين ان تركيا شهدت آخر انقلاب عسكري في 1980 بقيادة كنعان ايفرن الذي أصبح رئيساً فبادر عزيز نسين مع مجموعة من المثففين الى كتابة «عريضة المثقفين» في 1984 الى الرئيس والبرلمان، ما جعلهم يتهمونه بـ «الخيانة» لأجل ذلك. وقد اكتسبت هذه الحلقة النقاشية أهمية بسبب مشاركة من بقي على قيد الحياة من اولئك المثقفين مثل انجي آرال وتورغوت قازان وبولنت تانك وإلهان تكلي وأربيل توشالب. وتبع هذه الحلقة النقاشية حلقة أخرى عن حياة وأدب عزيز نسين وحلقة ثالثة عن أهم انجازات عزيز نسين التي خلدته ألا وهو «وقف أطفال عزيز نسين» الذي يوفر المأوى والتعليم للأطفال المحتاجين حتى تخرّجهم من الجامعات.
في اليوم الثاني السبت عرض فيلم وثائقي أنجزه فيضي تون بعنوان «عزيز نسين: نصر الدين خوجا المعاصر»، أي الشخصية الساخرة المعروفة التي تتداخل مع شخصية جحا عند العرب. أما يوم الأحد الموافق عيد ميلاد الكاتب فقد تضمن حلقة نقاشية عن «السخرية في الميديا» وعرض مسرحية «عزيز نامه» مستوحاة من روايات وقصص عزيز نسين. وبالمقارنة بأزمير فقد كان الاحتفال بهذه المئوية مختلفاً في اسطنبول حيث أقيمت في فندق ديدمان الفخم حفلة موسيقية لعازف البيانو التركي العالمي فاضل ساي وعازف الكمان جهاد أمشكن لكي يذهب ريعها الى «وقف أطفال عزيز نسين» التي كان الكاتب قد وصفها بأنها «أعظم انجاز فني».
كان عزيز نسين واسمه الأصلي محمد نصرت ولد في أسرة فقيرة والتحق بالأكاديمية العسكرية ليتخرج برتبة ضابط، ولذلك اتخذ هذا الاسم (عزيز نسين) لكي يكتب به بحرية ولكن سرعان ما سُرّح من الجيش بسبب ميوله اليسارية ليمارس مختلف المهن الى أن تفرغ للكتابة والنشر في الصحافة. ومع شهرته المتزايدة في تركيا والعالم في خمسينات القرن العشرين الا أن الأنظمة التي جاءت بواسطة الانقلابات العسكرية في تركيا كانت تسوقه من حين الى آخر الى السجن وهو ماكان يزيد من الإقبال على قراءة أعماله.
اشتهر عزيز نسين بغزارة الإنتاج حتى أن كتبه تجاوزت المئة وتنوّعت بين الروايات والمجموعات القصصية والمسرحيات التي تميزت بالسخرية المرة أو الكوميديا السوداء. وبسبب الأوضاع الصعبة الاقتصادية والسياسية في تركيا في مطلع النصف الثاني للقرن العشرين فقد كانت أعماله تجد صدى واسعاً بسبب روح السخرية التي يتعرض بها لتلك الأوضاع وبسبب ملاحقة السلطات له سواء بمنع الصحف التي كان يصدرها أو باعتقاله من حين الى آخر بسبب مقالاته. ومن ناحية أخرى ساهمت ظروف الحرب الباردة في انتشار أدبه خارج تركيا حيث تُرجم الى لغات أوروبا الشرقية كما أن عضويته في اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي نشط في أيام الحرب الباردة سمحت له بالتواصل مع العالم العربي وزيارة القاهرة في 1966 ثم دمشق في وقت لاحق ولقائه مع بعض الكتّاب العرب.
تحولت دمشق لاحقاً الى مركز لترجمة روايات وقصص ومسرحيات عزيز نسين مع جيل جديد من المترجمين (فاضل جتكر وعبد القادر عبداللي وصفوان الشلبي وغيرهم) الذين عرّفوا بالأدب التركي. وفي هذا السياق كان فاضل جتكر أول من نشر مختارات قصصية لعزيز نسين عن وزارة الثقافة السورية في 1983 على حين أن رواية «زوبك» التي ترجمها عبد القادر عبداللي ونشرتها دار الأهالي أحدثت فرقاً بعد أن تحولت الى مسلسل «الدُغري» لدريد لحام الذي حظي بشعبية كبيرة. وبعد هذه البداية تتالت ترجمة أعمال عزيز نسين الى العربية (يسلم الوطن، الكرسي، الإضراب الأخير، أسفل السافلين، صحوة الناس، وسام للحمار، مجنون على السطح) حتى قاربت الخمسين من روايات ومجموعات قصصية ومسرحيات بما في ذلك سيرته «هكذا أتينا الى الحياة».
ولكن هذه الكتب في ما أعلم، لم تساهم بشيء في ما نذر له نفسه عزيز نسين. فقد عاش نسين طفولة صعبة في ملجأ وإذا تركنا له أن يصف ذلك «عشت طفولة معذبة في ملجأ للأطفال وأعتقد بأن حياتي كلها من صنع هذا الملجأ ولولا رعايته لما كان هناك عزيز نسين». ولأجل ذلك فقد قرّر عام 1973 أن ينشئ وقفاً أو مؤسسة لرعاية الأطفال الأيتام والمحتاجين وخصّص لها كل عائدات كتبه المؤلفة والمترجمة منذ ذلك الحين. وبالفعل قامت هذه المؤسسة وسميت «وقف أطفال عزيز نسين» وتمكّنت حتى الآن من توفير مئات الفرص للأطفال الأيتام والمحرومين بإيوائهم وتعليمهم ورعايتهم حتى إكمال تعليمهم الجامعي وفتح فرص العمل لهم.
كان عزيز نسين يفتخر بما أنجزه حين كان يسأل عن أعظم عمل له فيقول عن هذا الوقف إنه «أعظم عمل فني» قام به. وبالفعل فقد دخل هذا الإنجاز في خريطة «السياحة الثقافية» لزوار تركيا وبخاصة لمحبي عزيز نسين، حيث يوجد فيه قسم يحتوي على الأغلفة الأصلية لكل كتبه الصادرة في تركيا والمترجمة الى لغات العالم، ولكن لا يوجد هناك سوى غلاف واحد من كتبه المترجمة الى العربية التي قاربت الخمسين (أطفال ذلك الزمان)! في مئوية عزيز نسين نستذكر فوضى الترجمة في عالمنا العربي وانعدام الحقوق وخلود الكتاب بعد موتهم ليس بأعمالهم الفنية فقط بل بأعمالهم الإنسانية أيضاً. فمن لدينا من الكتّاب العرب (الذين حظوا بالشهرة والثروة بعد طفولة صعبة) من أمثال عزيز نسين الذي لم ينسَ طفولته المعذبة وأسّس مؤسّسته الخيرية لكي ينقذ مئات الأطفال من اليتم والحرمان، وهم أطفال يعتزون الآن بأبيهم الروحي عزيز نسين؟
صحيفة الحياة اللندنية