عصافير؟ أم غربان ناعقة؟
على مدى أزمنةٍ شتى وثمة بَوْنٌ شاسع فيما بين الإبداع الحقيقي، نَصَّاً مكتوباً كان أو لوحةً مرسومةً، وبين الصور الباهتة من الإبداع، تلك التي تصل إلى سمع وبصر عامة الجماهير، جاعلة إياهم يتفاعلون معها، وأحياناً يحفظونها عن ظَهْرِ قلب ويردّدونها في حركاتهم وسكناتهم. وحقيقةً لا أُرجع ذلك إلى أن الإبداع، كما يحلو للبعض أن ينظِّر ويفلسف الأمر، هو فن الصفوة وخاصتهم ولا صلة للعامة وسواد الناس به، كلا وذلك، وببساطة شديدة، لأن الإبداع هو غذاء المشاعر والمشاعر ليست حِكْراً على أحد دون أحد، ولا علاقة لها لا بالثقافة ولا حتى بالمعرفة ولا بغيرهما. إنما هي شيء يولد الإنسان به. لكني أرى أن السبب في هذا يرجع في المقام الأول إلى درجة الثقافة التي يمتلكها الشخص ومدى ارتفاع مؤشر معرفته أو انخفاضه.
ففي الوقت الذي لا يفهم الكثيرون نصاً لأدونيس أو لمحمد الماغوط أو لعفيفي مطر أو حتى لمحمود درويش أو لكثيرين غيرهم من أساطين الإبداع الرائع والحقيقي، ولا يتفاعلون معه ولا يتأثرون به، نجد الجماهير الغفيرة وقد حفظت عن ظهر قلب دواوين كاملة لمتشاعرين لا قيمة لهم. ليس هذا وحسب، بل إن هؤلاء، في نظر هؤلاء، أضحوا نجوماً وأقماراً ساطعة في الوقت الذي لو سألت أحدهم عن أبدع وأروع مبدع في الوقت الراهن ما أجاب..!
على المبدع أن يتمسك بشعرة الأمل فلربما حدث في الغد ما لم نكن نتوقعه.. أقصد أن تعود الأمور إلى نصابها الحقيقي.. ومن يدري.. لعل وعسى.
إذن يتفاعل العامة مع نصوص هي في مستواهم الثقافي الضحل، وصفًا لا احتقارًا، وفي مستوى معرفتهم وأُمّيّتهم، يتفاعلون مع نصوص هي في أغلبها خاوية من سمات الإبداع وتفتقر إلى روح الفن الحقيقي، غير أنَّ أصحابها أساتذةٌ في مجال تسويق أعمالهم مثلما هم أيضاً يُجيدون العزف على أوتارٍ أخرى، تثير عاطفة الأميين ثقافياً ومعرفياً وتلهبها، وفي النهاية تؤول إلى لا شيء.. أقصد لا تؤول إلى أي شيء!
لهذا لا يبدو غريباً أو مثيراً للدهشة، أن يُهلَّل العامة لنصوصٍ لا إبداعَ فيها ولا تَحْملُ أيَّ قيمة إبداعية في الوقت الذي لا يُقدِّرون نصوصاً أخرى ملأى بالإبداع، لكنَّ ثقافتهم الضحلة لمْ تكن لتسمح لهم بالتواصل معها والانجذاب إليها.
وما يقال عن الأدب والفن التشكيلي يمكن أن يقال كذلك عن الغناء الذي يقف العامة طوابير دافعين مئات الجنيهات ليسمعوا أو يشاهدوا أشخاصاً جعلوهم، بأيديهم وبنقودهم، نجوماً لا لشيء سوى لأنهم يتصفون بالتفاهة والسطحية التي تمسح أدمغتهم، وتنقلها لتعيش في عالم آخر، كله زيف ووَهْمٌ وخداع في الوقت الذي اختبأت فيه قمم غنائية بسبب عزوف العامة عنهم، لأنهم لا يزالون يتمسكون بكل ما هو هادف وأصيل.
ربما يتسبب هذا في إصابة بعض المبدعين الحقيقيين، كما يحدث في أيامنا هذه، بإحباط مزمن بعد أن يستقر في دواخلهم أنهم كالنافخين في القِرَب المقطوعة، أو كمن يرفع الأذان في جزيزة مالطا المجاورة لغيرنا. نعم يُحْبَطون ويَيْأسون وهم يرون بأعينهم، ويسمعون بآذانهم عن نجوم مُزيَّفة ومُزيِّفة، لا تمتلك سوى بريق كاذب هو أقرب إلى السراب مما سواه، ورغم هذا يتربعون على العرش فيما تُزيح الظروف السيئة والأزمنة، الغابرة بأهلها، النجوم الحقيقيين عن شاشة العرش الجماهيرى.
أليس مُحزناً إلى حد البكاء أن يرى الأسدُ نفسه وقد أُقْصِيَ عن مكانه الطبيعي في الوقت الذي يحتل فأر كهْلٌ عرشاً لم يُخْلقْ له أبداً؟
وأذكر في هذا الصدد ما قاله الشاعر الكبير الراحل عبدالوهاب البياتي إجابةً عن سؤال “هل القصيدة الجماهيرية هي عبارة عن أكذوبة كبيرة”: طبعاً طبعاً. القصيدة الجماهيرية لا يقصد بها القصيدة السياسية فقط.. قد تكون قصيدة حب ومع ذلك فهي جماهيرية. الآن عندما نأتي لدراسة القصائد التي غناها المغنون في نصف قرن نجد معظم هذه الكلمات سخيفة وسقيمة. وذلك هابط ونجده في أسفل السافلين وذلك لأن معظم المغنين ليس لديهم ثقافة كافية. هم شبه جهلة وأميون يختارون أي كلام سهل ويغنونه.
من هنا ثمة طريقان فقط يمكن للمبدع، إن كان كذلك، أن يختار أحدهما ليسير فيه: إما أن يمضي في طريق الإبداع الحقيقي دون أن ينتظر من أحد كلمة شكر أو تشجيع، ناهيك عن جعله نجماً جماهيرياً يُشار إليه بالبنان ويرتمي المعجبون والمعجبات في أحضانه وبين ذراعيه وتهرول إليه الآلاف ليوقِّع لهم باسمه في “أوتوغرافاتهم”.
كما لا ينتظر أن تقترب الجوائز منه ولا حتى أن تُلقي إليه بالتحية! هذا وإما أن يُفضِّل، تكبيراً للدماغ وترييحاً له، المضيَّ في درب السطحية والضحالة لتجتمع حوله الجماهير مُصفقة له، لا لشيء إلا لأنه يُذكِّرهم دائماً بتفاهتهم وخوائهم المعرفي. ثم ينسونه بعد لحظات قلائل. لكن وعلى الرغم من كل شيء أيهما أحق بالاختيار: إبداعٌ يُكتب له الخلودُ رغم تجاهله والتعتيم عليه وعلى صاحبه مؤقتاً.. أم تفاهةٌ تختفي أسرع من اختفاء فقاعات الصابون وتتوارى معها ضجتها الإعلامية والجماهيرية ولا يبقى منها سوى سراب؟!
هذا لا يعني أن الإبداع الحقيقي لا يصل دائماً إلى الجماهير، كلا إنه يصل، ويأخذ مكانه المناسب في عقول وذاكرة الجماهير، لكنه يعاني في حقيقة الأمر الأمَرّيْن خلال رحلة وصوله. إنه يصل بعد رحلة من العناء الشديد كمن يحفر في الصخر أو قل في جبل من معدن صلب لا سبيل إلى النفاذ منه أبداً.
نعم وللأسف الموجع يعاني الإبداع الحقيقي وحواريوه ومناصروه معاناة لا سبيل لوصفها، وكأنهم أنصار نبي ليس مرغوباً في رسالته بالمرة. فهل هذا هو قَدَر الإبداع الحقيقي ونصيب أهليه.. أم أن الموازين حين تنقلب معاييرها تؤدي إلى هذه النتيجة؟
يقول الكاتب والروائي البرازيلي باولو كويليو والذي يصفه النقاد بأنه كاتب جماهيري فقط: لكي تؤمن بأن طريقك هو الطريق الصحيح لا حاجة بك إلى أن تُثبت أن الطريق الذي اختاره غيرك ليس صحيحاً.
فلتختر.. صديقي المبدع طريقك كما يحلو لك، لكن عليك أن تتأكد تماماً من أنك لن تأخذ كل شيء، فإما ألا يلتفت أحد في حياتك إلى إبداعك ثم تُكتَشف عبقريتك الإبداعية الفذة بعد رحيلك بقرون، وإما أن تنال حظك الجماهيري وبريقك الإعلامي اللحظي ثم تُنْسى بمجرد أن تتوارى عن الأنظار، وإما أن تكون محظوظاً كبيراً فتسعد بنيْل الحُسنييْن في حياتك، وهذا ما يجب أن يكون. أقصد أنه من حق من يمتلك في ذاته موهبة فذة ومقدرة إبداعية صادقة لا بد وأن يتوج ملكاً في زمانه وأن ينال نصيبه من الشهرة والذيوع، ليس مَنَّاً من أحد عليه، ولكن لأنه يستأهل حدوث ذلك، لكن ونظراً إلى أن كل الأمور قد قُلبت معاييرها يصير حلماً، وربما وهماً أن يحصل كل ذي حق على حقه، خاصة في عصر كثُر فيه اللصوص الذين يسطون ليل نهار على ما لغيرهم وليس لهم.
واقعياً نحن الآن في عصر يوصف المبدع فيه بالقابض على الجمر، لأنه لا يزال يمارس إبداعه في هذا الجو الخانق حتى الموت. إنه عصر لم يكن فيه للموهبين من نصيب سوى حرق الدم نتيجة لما يرون أمام أعينهم.
إننا الآن في عصر هو للفارغة جيوبهم من نقود الإبداع والموهبة، غير أن جيوبهم ملأى بأشياء أخرى تُبيح لهم وتمكنهم من خنق كل الزهور الجميلة وشنق العصافير التي تشدو، فيسعد الجميع بصوتها العذب.. يفعلون ذلك وبكل وقاحة لصالح ثلة من الغربان الناعقة.
هذا هو العصر الذي نحيا فيه وربما نحياه، لكن ليس لأي مبدع حقيقي أن ييأس وليس له أن تتمكن الهزيمة منه.. بل له أن يقاوم ويظل يقاوم حتى يحتل مكانه الذي خلق من أجله، عليه ألا يفقد الأمل في غدٍ سيكون أفضل حالاً، غد يُناصر أصحاب الموهبة ضد المحرومين من قليلها. نعم له أن يتمسك بشعرة الأمل هذه فلربما حدث في الغد ما لم نكن نتوقعه.. أقصد أن تعود الأمور إلى نصابها الحقيقي.. ومن يدري.. لعل وعسى.
ميدل إيست أونلاين