تحليلات سياسيةسلايد

«عقلاء إسرائيل» يبتعدون عن السرب: أهدافنا غير مضمونة… والمطلوب توجيه أميركي

علي حيدر

يقارب المسؤولون والخبراء الإسرائيليون الحرب على غزة انطلاقاً من تقدير واقتناع بأن نتائجها وتداعياتها «ستُبلور نمط وجودهم»، بحسب تعبير رئيس الاستخبارات العسكرية، اللواء أهارون حليفا.

 

في أقلّ التقديرات، ستشكّل هذه الحرب محطّة تأسيسية في تحديد مصير إسرائيل في المنطقة، وفق ما يشي به موقف أكثر من مسؤول إسرائيلي أيضاً. وتتفاوت تلك المقاربات في العمق والموضوعية والأبعاد التي يتمّ تناولها في كلّ منها، وذلك بحسب موقع كلّ من أولئك المسؤولين، وما يتمتّع به من فكر استراتيجي. ولعلّ من أبرز القيادات التي تناولت الأبعاد المشار إليها، رئيس وزراء العدوّ الأسبق، إيهود باراك، في مقالة له في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، يوم الجمعة الماضي، حيث استفاد من المخزون الذي راكمه في المناصب التي توالى عليها، ليفنّد القيود والمخاطر التي تواجه الجولة الحالية، وفق منهجية الخبير الذي تولّى رأس الهرم السياسي في مؤسّسة صناعة القرار السياسي والأمني.

رأى باراك أن «الحرب تدور في ظلّ أربعة قيود، هي: تحرير الأسرى والمحتجزين، ردع حزب الله وإيران، الحفاظ على الشرعية للعمل لزمن طويل، ومسألة اليوم التالي، أي أمن غلاف غزة، وماذا سيحصل وكيف لكي يتمكّن سكان الشمال من العودة إلى بيوتهم»، منبّهاً إلى أن مستوى تأثير كلّ من هذه القيود، يمكن أن يوصل إلى «إحباط قدرة إسرائيل على تحقيق أهدافها»، انطلاقاً ممّا يمكن أن يدفع إليه من خيارات عملياتية. ويلاحظ أن باراك ربط، في نصّه، مصير الأسرى بمستقبل الحرب، في تقدير ينبع من أن إصرار إسرائيل على المضيّ في المعركة البرية والقصف الهمجي حتى النهاية، سيُعرِّض حياة هؤلاء للخطر. ولذا، في لحظة ما، قد تضع التطوّرات الميدانية القيادة الإسرائيلية أمام منعطف مفصلي، تجد فيه أن عليها الاختيار بين مواصلة العملية أو إنقاذ الأسرى، والذي لن تقبل المقاومة تحقّقه عند ذاك إلّا كجزء من صفقة تتجاوز مسألة التبادل، إلى العديد من الترتيبات.

أما وضْع باراك ردع «حزب الله» وإيران كتحدٍّ أمام مؤسّسة القرار – كي تتمكّن من مواصلة حربها وتحقيق أهدافها -، فينطلق من تقديره أن الضربات التي يشنّها «محور المقاومة» تشكّل عامل ضغط متواصل وتصاعدي. وبحسب تعبير رئيس «مركز موشيه ديان»، عوزي رابي، فإنه في «كلّ يوم يمرّ، يستجدّ عنصر جديد يجعل الأمور أكثر تعقيداً»، في إشارة إلى المتغيّرات التي تتوالى على الجبهة الشمالية مع لبنان، وصولاً إلى اليمن، والتي يخشى باراك من أنها قد تصبح أكثر خطورة، وتترك بالتالي تأثيرها على مجرى الحرب، وخاصّة أن المتوقّع لهذه الأخيرة أن تستمرّ عدّة أشهر، وهو مدى زمني يحمل في طيّاته إمكانية حصول الكثير من التحوّلات. وإذ يبدو أن هذا العامل يحتلّ المرتبة الأولى من بين العوامل الأخرى بالنسبة إلى مستويات التأثير التي تخشاها إسرائيل، فمن المهمّ الإشارة، هنا أيضاً، إلى أن باراك سبق أن تولّى العديد من المناصب العليا في المؤسّسة العسكرية، وأهمّها رئاسة أركان الجيش، ورئاسة الاستخبارات العسكرية، ومناصب أخرى لا تقلّ أهميّة؛ ولذا، فإن تقديره يظهر ذا دلالة.

وفي الموازاة، رأى باراك أن المحافظة على «شرعيّة» الحرب تشكّل تحدّياً إضافياً أمام القيادة الإسرائيلية، وخصوصاً أن مواصلة ارتكاب المجازر والوقت الطويل الذي تحتاج إليه العمليات، قد يؤدّيان إلى تحوّلات في الرأي العام الدولي، مع إمكانية أن يؤثّر ذلك على القرار الأميركي أيضاً. أما بالنسبة إلى عودة المستوطنين إلى بيوتهم على الحدود الشمالية مع لبنان، فإن إصرار هؤلاء على رفض العودة سيُقوِّض صورة الكيان القادر على حماية «مواطنيه»، وهو مستجدّ ينطوي على تداعيات خطيرة على مستوى ثقة الجمهور بقياداته السياسية والعسكرية، في حين أن العمل على تلبية مطالبهم سيضعهم أمام تحدٍّ جدّي في مواجهة «حزب الله» الذي سيكون هذه المرّة في موقع المدافع عن السيادة والأراضي اللبنانية، في ما يمنحه هامشاً أوسع في المبادرة والردّ.

وفي تقدير متّصل، رأى باراك أن فقدان جزء من الأسرى واتّساع القتال في الشمال وربّما أيضاً في الضفة، وإمكانية نشوب حرب استنزاف لعدّة سنوات، مع أثمان عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية جسيمة للغاية، هو سيناريو ينطوي على درجة احتمال حقيقية. ومع ذلك، وعلى وقع تلك القيود التي فنّدها، تبرز محدودية قدرة إسرائيل على التعامل معها. ولذا، فهو شدّد على ضرورة أن «يكون للولايات المتحدة دور مركزي، وأحياناً حرج، حتى نحقّق أهدافنا»، في موقف يُعبِّر عن سقوط أحد الشعارات المهمّة التي كانت تروّج لها المنظومة الإسرائيلية، وعنوانه أنها قادرة على الدفاع عن نفسها بقدراتها. وعلى أيّ حال، فإن «طوفان الأقصى»، وما تبعه من تطوّرات، بدَّد المفهوم المذكور وأَظهر هشاشة إسرائيل في مواجهة أعدائها. وفي هذا الجانب، أورد باراك مجموعة من المعطيات التي تُظهر حجم الدور الأميركي، من الجسر الجوي العسكري، وحشْد حاملتَي طائرات على متنهما 150 طائرة، وغواصة نووية، وسفناً مسلّحة بصواريخ جوالة وصواريخ اعتراض، وطائرات قصف ثقيلة، دُفِع بها نحو قاعدة «الناتو» في جزيرة صقلية. وتُظهر تلك القدرات جدّية ما أعلنه المسؤولون الأميركيون مراراً، بمَن فيهم الرئيس جو بايدن، من أن الهدف منها هو ردع «محور المقاومة». كما تكشف عن أن الولايات المتحدة منخرطة عملياتيّاً بشكل مباشر في هذه الحرب، هذا من دون تناول حجم المساعدات المالية البالغة 14,3 مليار دولار، والحماية السياسية لإسرائيل كي تتمكّن من المضيّ في حربها. وعلى عكس بعض المفاهيم الخاطئة عن الردع، فإنّ ذلك يؤشّر إلى إرادة وقدرة على التدخل العسكري المباشر، لأنه من دون هذين العنصرين، يصبح الردع كلاماً إنشائيّاً لا أثر له.

ومع ذلك، فإن ساحات «محور المقاومة» لم ترتدع عن خيار نصرة المقاومة في قطاع غزة، من دون أن تقع في الوقت نفسه في الفخّ الإسرائيلي المتمثّل في الدفع نحو حرب كبرى بمشاركة أميركية وأطلسية، باعتبار الظروف الحالية فرصة تاريخية قد لا تتكرّر. ولكن، من الواضح أن العدو يخشى من ارتقاء إضافي في مسار الضربات إلى سقوف أعلى؛ ولذا، تتوالى التهديدات والرسائل على ألسنة كبار المسؤولين في اتجاه «حزب الله» ولبنان، إلا أنها لم تحقّق النتائج المرجوّة منها إلى الآن. وبالنتيجة، يؤشّر كلّ ما تقدّم إلى حجم التعقيدات التي تتّسم بها هذه الحرب، والمخاطر التي تنطوي عليها، وكونها مفتوحة على أكثر من متغيّر قد يدفع بها في هذا الاتجاه أو ذاك.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى