عقيل مهدي يوسف يترجم ‘فن الممثل’
المخرج العراقي الكبير والناقد الجمالي وأستاذ الجماليات البروفيسور عقيل مهدي يوسف، كان ومازال، محطة مبهرة من المحطات التي سجلتها الذاكرة المسرحية العراقية بفخر وكبرياء، منذ إرتقى منصات البوح المسرحي بتمظهراته وفضاءاته الجمالية، وكانت له استنباطاته الفلسفية، وبناءاته التكوينية لعناصر العرض المسرحي، فحققت عروضه الإستجابة المثلى على مستوى الفرجة الشعبية والنخبوية والتي أثارت المتلقين بمستوياتهم المختلفة، فضلاً عن المتخصصين والمعنيين والمهتمين بما فيهم النقاد.
هذه القامة المسرحية العراقية الشاهقة التي تُعنى بالفنون المسرحية، بما انطوت عليه من سفر مسرحي أصيل سواءً في التأليف، أم الإخراج، أم التدريس، أم النقد الجمالي إستطاعت أن تقدم العديد من المنجزات المسرحية التي حلقت بالمسرح العراقي إلى مراتب وقمم عالية محلياً وعربياً.
الصورة الفنية يختبرها الجميع بشكل مختلف، لكنها تبقى كما هي، ونفس الصورة الدرامية مقبولة، في المقارنة، يفسر الممثل الحركة من وجهات نظر مختلفة، يتغير المشاهد ويتغير الممثل، ولكن يبقى التأمل مدى الحياة
فقد كان تأليف وإصدار الكتب المسرحية خاصة والثقافية عامة أحد الوجوه الناصعة للبروفيسورعقيل مهدي يوسف، الذي ناهزت مؤلّفاته السبعين ومن بينها: الجمالية بين الذوق والفكر، التربية المسرحية في المدارس، نظرات في فن التمثيل، الواقعية في المسرح العراقي، مسرح ما بعد الحداثة، متعة المسرح، جماليات المسرح الجديد، التعريف الجمالي، العملية النقدية، السؤال الإبداعي، وأسس نظريات التمثيل، التقاط الجمال، الفضاء الجمالي للمسرح، نظرات في فن التمثيل، الجمالية بين الفكر والذوق، الممثل والميزانسين، فكرة الإخراج، وغيرها، والتي بحثت في شؤون ومناحي الفنون المسرحية بأبعادها الجمالية والإبداعية والفكرية، شعوراً منه بأهمية الثقافة المسرحية التي تدخل في أساسيات الدرس المسرحي الأكاديمي القائم على النظرية، والتطبيق، والتجريب، والإستلهام من مدارس المسرح العالمية التي درسها أكاديمياً.
حيث حصل على شهادة الماجستير والدكتوراه من جامعة فيتس / بلغاريا عام 1982-1983، وهاهو اليوم يتحفنا بترجمة إبداعية رصينة وأصيلة، عن البلغارية، لرائعة من روائع أحد نقاد ومنظري المسرح العالميين، لوضعها بين أيدي الدارسين فضلاً عن صناع المسرح من مخرجين وممثلين وسواهم، والمتمثلة بكتاب (فن الممثل) للكاتب والباحث البلغاري (كوجو كوجيف)، والذي صدر – مؤخراً – عن (دار الفنون والآداب) و(مركز إنانا للأبحاث والدراسات والترجمة) ـ العراق (البصرة)، وجاء في (182) صفحة من القطع المتوسط.
إن الوعي التمثيلي المتشعب الذي لا ينتهك نقاء فكرنا، في تأملنا في إرتباطاتنا بالحياة الواقعية، هو إحدى السمات المميزة للفرق بين المسرح والحياة
في لفتة موحية ومعبرة ودالة على الوفاء والعرفان لزميل دراسته في جامعة فيتس ذاتها ورفيق مسيرته الابداعية في فضاءات المسرح المتنوعة، أهدى أستاذ الجماليات البروفيسور عقيل مهدي يوسف هذا الكتاب الى ذكرى الفنان والمخرج المسرحي الراحل الدكتور فاضل خليل.
يرى البروفيسور عقيل مهدي يوسف وهو يقدم تعريفاً لهذا الكتاب : “يمثل هذا الكتاب لدينا، تجربة أولى، ليتعرف القارئ بشكل تفصيلي على التعبيرات المتنوعة لفن الممثل، وطبيعته الجدلية المشروطة بعلاقات ابداعية معقدة، ما بين الممثل، المؤلف، المخرج، الديكوريست التقني، الموسيقى، المتفرج، في مواكبة الحياة نفسها، واتجاهاتها، وما تركته الأجيال من إرث ابداعي، من مشاعر وأحاسيس مسرحية، (سواء في طرائق “المعايشة” أم “التقديم”) التي تجسدت في مركز طروحات المنظّرين في المسرح: ديدرو، ليسنغ، كريج، انطوان، راينهارت، ستانسلافسكي، برخت…”.
ويضيف: ” إن النظرات الجمالية المطروحة، موضحة بانطباعات، وتأملات في فن الممثل، في مسارح (الدول الغربية)، وفي (المسرح الاشتراكي)، ويكشف هذا التقابل بينهما، عن الأفكار الأساسية، وعن روح فن الممثل الحية، بشباب مستدام، والتي بات من الصعب عليها أن تبدو مقفلة في مقولات تجريدية أزلية لأن: “أناسُ المسرح يشيخون، ويرحلون، ولكن المسرح، لن تدركه الشيخوخة”، كما يؤكد نيميروفيتش دانجنكو.
في التمهيد للكتاب يقول المؤلف كوجو كوجيف : ” كتبت هذه السطور بعد أن أصبح الكتاب جاهزاً، لمرات عدة. لقد أعدت قراءتها وأقنعتني بالإخفاقات التي وجدت نفسي فيها! بأنني قد كشفت عن سحر المسرح، وأنني كشفت كذلك عن الإخفاقات والأسباب التي لايمكن للوقت أن يمحوها.. بعد أن تمكنت من رؤية العديد من الباحثين الذين تناولوا فن الممثلين البارزين في العصر الحديث بالإعتماد على عملهم، أردت أن أدافع عن أنماط الفنون والمدارس.”
يحاول كوجيف أن يتماهى مع المسرح حين يؤكد : “نحن في المسرح نريد اقتراحاً كاملاً وفعالاً للأفكار، هذه الأفكار التي ولدت بشكل رئيسي من السبب الجذري للعرض نفسه، والتي تم تطويرها وإثرائها من قبل المشاركين الآخرين، التي تظهر من خلال الشخص الحي الفاعل”.
تضمن الكتاب سبعة فصول في الفصل الأول منها (ما هو فن الممثل؟) يقدم كوجيف إجابة مميزة وموسعة ومهمة، متوقفاً عند آراء وأفكار كبار منظري المسرح في الغوص بفن الممثل وتجلياته على الخشبة مع استعراض لنماذج من الشخصيات في نخبة من مسرحيات متنوعة.
مؤكداً “أهمية تغذية الخيال بالموهبة من خلال جهود العقل والقلب لإختراق عالم الأفكار الثانوية، وهي ليست نتيجة فطرية حسب بل هي أيضا إنعكاس مكثف يواجه الخطوط العريضة وغير الواضحة للصور المقترنة مع الحياة، مأساة وجمالية الحياة! الطبيعة دائماً سخية للذين يدركون قوانينها.”
كما يخوض في غمار التفسير في الفصل الثاني لـ(خصائص الإحساس المسرحي)، متوقفاً عند عجائب السحر المسرحي بتجلياته المختلفة، مشيراً الى أنه “حين يلعب الممثل على المسرح، يبدو لنا أنه متجسد تماماً في الصورة المقدمة، وأنه نسي نفسه تماماً.هل هو حقاً يحب، يعاني، يحلم أم أنه حب (مصطنع)، معاناة، أحلام؟ نعم، يبدو لنا أن هذه هي الحياة الحقيقية”.
و”إن الوعي التمثيلي المتشعب الذي لاينتهك نقاء فكرنا في تأملنا في إرتباطاتنا بالحياة الواقعية، هو إحدى السمات المميزة للفرق بين المسرح والحياة”.. موضحاً” لأن الممثل فنان مبدع وليس منفذاً سطحياً لأفكارالآخرين”.
في حين يناقش المؤلف في الفصل الثالث (طبيعة تمثيل (الدور المسرحي) ، الذي يتحرك ويتغير مع الحياة بأفكاره، ومعاييره الجمالية، الى جانب التغيرات الجسدية والأخلاقية والروحية المستمرة في قدرات الفنان المسرحي نفسه.
يرصد في الفصل الرابع (“إمبلو” الإبداعية في الطريقة المسرحية للممثل وأساليبه)، مستعرضاً ” الإحتمالات في عمل الممثل للفيزياء النفسية، والهيكل الأخلاقي والسياسي والفكري للفنان، وهي الركائز التي تنتجها تلك العلاقة الحية مع الوقت والواجب، للمثل الجديدة في مرونة بلاستيكية رائعة وروحانية”.
يناقش في الفصل الخامس العلاقة الحيوية المطلوبة دوماً في العملية الابداعية بين (الممثل والمتفرج) حيث يرى أن “الصورة الفنية يختبرها الجميع بشكل مختلف، لكنها تبقى كما هي، ونفس الصورة الدرامية مقبولة، في المقارنة، يفسر الممثل الحركة من وجهات نظر مختلفة، يتغير المشاهد ويتغير الممثل، ولكن يبقى التأمل مدى الحياة”.
ويستعرض في الفصل السادس قضية مهمة تتعلق بـ(الممثل وأخلاقية المسرح) مؤكداً “تحدد الطبيعة الإصطناعية للفن المسرحي الحاجة الى الأخلاق ودورها الحاسم في عمل الممثل. إذا لم يكن هناك حاجة أثناء التدريبات أو أثناء الأداء نفسه: الفشل والقبول الأكثر نبلاً وقيمة في المسرح هو قبل كل شيء احترام (الآخر)! والآخر هو الجمهور”.
ويكرس أخيراً الفصل السابع لتوضيح (المنظومة والنظرات في فن الممثل) حيث يعتبر (فن الممثل) “بمثابة تحد لرفاق الطريق المسرحي، الذي له أسباب جدية لمناقشة سيكولوجية إنشاء المسرح، تتطلب روحاً دائمة في البحث عن مشاركة المزيد من الناس”.
موضحاً ” لم يكن الدافع الحاسم لكتابة هذا الفصل هو الرغبة في تعريف القاريء بالنظم النظرية وآراء أبرز المفكرين المسرحيين – المخرجين، المربين، الممثلين، بمقاربة مع مسرحنا الحديث (….) ولكن للكشف الموضوعي عن القيم الجمالية الحقيقية الموجودة، في جهود المدارس المختلفة لإختراق – كل منها بطريقته الخاصة – تلك الخصوصية المعقدة لفن التمثيل.