عملية فلسطينية جديدة.. عوامل تصاعد الانتفاضة وخيارات العدو تجاهها
تشهد حكومة العدو الإسرائيلي وأجهزته جدلاً وارتباكاً في كيفية مواجهة تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية “الانتفاضة الثالثة” بأشكالها وسماتها المتعددة، في ضوء تقديرات الموقف للجهات الأمنية والاستخبارية للعدو، التي تشير إلى استمرار المقاومة في المرحلة المقبلة وتصاعدها، ولا مؤشرات على خفض التصعيد، مع تلقيها مئات الإنذارات عن عزم فدائيين فلسطينيين تنفيذ عمليات جديدة.
ففي غضون أقل من أسبوعين، قتل 10 مستوطنين وأصيب العشرات، في عمليات فلسطينية متنوعة، أبرزها عمليتا القدس للشهيدين البطلين خيري علقم وحسين قراقع، الأمر الذي عكس فشل منظومة العدو في إحباط العمليات قبل تنفيذها.
أشرت في مقال نشرته في 6 تشرين الأول/أكتوبر عام 2022 إلى أننا أمام انتفاضة ذات سمات خاصة في الضفة الغربية المحتلة، وذكرت بأن “كل المؤشرات تدلّ على أن انتفاضة ثالثة تندلع في الضفة المحتلة، بسمات ومعالم ذكية وخلّاقة”، وهو ما يحدث الآن، على اعتبار أن السمة التي تميز الانتفاضة الحالية، هي الموجات المتتالية والارتدادات المتصاعدة والعمليات الفردية والمنظمة.
يدرك العدو أن ما تشهده الضفة الغربية والقدس ليس مجرد موجة عابرة، وأن الجبهة الفلسطينية باتت تشكل أحد التهديدات الإستراتيجية خلال العام الحالي، وبالرغم من اختلاف أوساط العدو في توصيف المواجهة الحالية، هل هي انتفاضة أم موجة، فإنها تُجمع على أنها الأخطر منذ سنوات، وأن مآلاتها يصعب التنبؤ بها.
يبرر العدو فشله في إحباط العمليات الفدائية المتصاعدة ومواجهتها، لا سيما عمليتي القدس الأخيرتين، أنها تنفذ بدوافع فردية، ويطلق على منفّذيها، “الذئاب أو الأسود المنفردة”، ويتناقض في روايته التي تسعى لتبرير عجزه أمام جبهته الداخلية، عندما يؤكد أن العمليات الفدائية الفردية، مرتبطة بعمليات التحريض والتوجيه والتمويل من قبل فصائل المقاومة ورموزها، لا سيما في قطاع غزة والخارج، عبر أدواتها وقنواتها المختلفة.
ويضاعف من التناقض في سرديته وروايته، عندما يدّعي أنه نجح في فصل الساحات، ويمتنع عن استهداف غزة بعد عمليات المقاومة في القدس والضفة، حتى يجهض مسار ربط الساحات الذي صنعته معركة “سيف القدس”، فيما يحمّل المقاومة في غزة مسؤولية المساهمة في تصاعد العمل المقاوم في الضفة بشكليه الفردي والمنظم، الأمر الذي يعكس تخبّط العدو وتردّده في رسم سياسة ناظمة لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية بسماتها الفريدة والمبدعة.
يحرص العدو والدول الحليفة له والأنظمة المطبّعة معه على تجاهل الحديث عن السبب المباشر والحقيقي للانتفاضة الجارية، وهو استمرار الاحتلال، المسبّب لكل الثورات التي فجّرها الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلالين البريطاني والصهيوني منذ 100 عام ونيف، وبالتالي فإن الانتفاضة الحالية تأتي في سياقها الطبيعي لشعب احتلت أرضه يسعى لتحريرها وطرد الغزاة عنها، وتأتي بعد ذلك العوامل المساهمة في إذكاء عمليات المقاومة والانتفاضة منها:
– حالة الوعي الفلسطيني الجمعي التي ترسخت بعد معركة “سيف القدس”، ونجاح المعركة في الربط بين الساحات، وتثبيت المقاومة المسلحة وتطور قدراتها كأداة إستراتيجية في مواجهة العدو واستنزافه، والدفاع عن الشعب الفلسطيني ومقدساته، وتثبيت مركزية قضية القدس والمقدسات في تثوير الجبهة الفلسطينية، وتفجير الطاقات الكامنة في الجيل الفلسطيني الجديد.
– فشل المسار السياسي للسلطة الفلسطينية، والقضم المستمر في مكانتها وشرعيتها بسبب استمرار التنسيق الأمني، وتراجع دعم كوادر فتحاوية لسياسات السلطة ورئيسها، ورفض مسار خلافته، وانخراط عدد من عناصر فتح وأجهزة أمن السلطة في العمل المقاوم.
– رغبة الجيل الفلسطيني الجديد في وضع بصماته في تفجير انتفاضة فلسطينية ثالثة.
– تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والإلهام الذي تصنعه العمليات الفدائية الناجحة.
– الرغبة الفلسطينية الواسعة، في الثأر والانتقام بعد قيام العدو باغتيال عدد كبير من الشهداء، على غرار ما حدث بعد جريمتي جنين وأريحا.
– الإهانات والاقتحامات من قطعان المستوطنين ورموزهم، على شاكلة الإرهابي إيتمار بن غفير، لباحات المسجد الأقصى، وجرائمهم تجاه أهالي القدس وأحيائها، إلى جانب الاعتداءات على الأسرى والأسيرات، والتي تزايدت في ضوء سلوك بن غفير وسموترتش وحكومتهما الفاشية، الدافع الدائم المحفز على تصاعد وتيرة المقاومة.
يدرك نتنياهو أن سلوك بن غفير وسموترتش سيصب مزيداً من الزيت على النار المشتعلة أصلاً على الجبهة الفلسطينية، فيما يسعى نتنياهو للتهدئة الأمنية وخفض التصعيد، للمضي في تنفيذ خططه تجاه الملف الإيراني وإنجاز مسار التطبيع مع المملكة السعودية، ويتشارك مع تقديرات الموقف للمؤسسة الأمنية التي تحذر من اندلاع مواجهة واسعة غير مسبوقة، في رمضان المقبل، في حال لم يتم نزع فتيل التصعيد، وكبح جماح بن غفير وسموترتش وتصرفاتهما الهوجاء، وهو التقدير الذي حذرت منه الأوساط الأميركية، لا سيما مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية “CIA”، وليام بيرنز، الذي أعرب عن قلقه من الأوضاع في الأراضي المحتلة، مشيراً إلى أن الأمور قد تؤول إلى انتفاضة ثالثة.
انطلاقاً من أولوية ملفي إيران والسعودية لنتنياهو، والخشية من تدهور الحالة الأمنية على الجبهة الفلسطينية، وتوصية الجهات الأمنية للعدو بالعمل على تبريد الجبهة قبيل شهر رمضان، قرر نتنياهو تبني عدد من التوجهات مؤخراً، على غير رغبة حلفائه في حكومة اليمين الفاشية، أبرزها:
– تأجيل قرار ما يسمّى “محكمة القضاء العليا” الإسرائيلية، هدم الخان الأحمر وإخلائه، على الرغم من أنه أحد البنود التي شملتها الاتفاقات الائتلافية بين نتنياهو وحزبي “الصهيونية الدينية” و”القوة اليهودية”.
– إرجاء هدم مبنى سكني فلسطيني، يقطنه نحو 13 عائلة فلسطينية يبلغ عدد أفرادها 100 شخص، في حي وادي قدوم، في بلدة سلون بالقدس، وكان بن غفير عزم على هدم المبنى قبل عدة أيام بذريعة البناء غير المرخص، وأوعز بتخصيص 500 شرطي لحماية عملية الهدم، فيما قرر نتنياهو تأجيل الهدم إلى أجل غير معلوم، علماً أن المبنى السكني في وادي قدوم هو واحد من 14 بناية بالقدس المحتلة أمر بن غفير بتسريع هدمها، وتم هدم 7 منها حتى الآن.
– عدم تنفيذ قرار سموترتش إبقاء بؤرة استيطانية أقامها مستوطنون في شمال الضفة، وأمر وزير أمن العدو يؤاف غالانت، بدعم من نتنياهو، بالاستمرار في عملية الإخلاء.
– امتنع العدو عن تنفيذ عمليات عدوانية واسعة ضد المقاومة في قطاع غزة، في أعقاب عمليتَي القدس الفدائيتين مؤخراً، في ضوء سعيه للفصل بين الساحات، والعمل على إجهاض ما حققته المقاومة بعد معركة “سيف القدس” بالربط بين الساحات الفلسطينية، إلى جانب خشيته اندلاع مواجهة عسكرية مع قطاع غزة.
– استجابة نتنياهو للخطة التي عرضها الجانب الأميركي لتهدئة الحالة الأمنية في الضفة الغربية، والتي تهدف إلى تعزيز التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، والعمل على إنشاء قوة أمنية فلسطينية مدربة تعمل على تفكيك الخلايا العسكرية في نابلس وجنين، والامتناع عن فرض عقوبات اقتصادية على السلطة، وتسهيل مهامها الأمنية.
تسعى المنظومتان الأمنية والسياسية للعدو لمواجهة العمليات الفردية والمنظمة، ومن يقف خلف تنظيمها وتوجيهها؛ بغية إحباطها ومنع تنفيذ مزيد منها، قبل أن يفقد العدو السيطرة وتتسع موجة العمليات، على نحو يشبه انتفاضة الأقصى عام 2000، ومن ثم اجتياحه للضفة بعد عامين من اندلاعها، لكن الكوابح والتحديات التي يواجهها اليوم، لم تكن حاضرة إبان عملية “السور الواقي” عام 2002، عندما اجتاحت قواته الضفة الغربية المحتلة، فالتحوّلات في البيئة الاستراتيجية للعدو، تضيّق خياراته على الجبهة الفلسطينية، لا سيما خيار تنفيذ اجتياح واسع للضفة الغربية، أو تنفيذ عملية “السور الواقي 2” في القدس، حسب ما صرّح به الوزير الفاشي بن غفير في أعقاب عملية الدهس الفدائية في القدس، أمس الجمعة، وذلك لأن:
– العدو يخشى أن يؤدي اجتياحه الواسع للضفة الغربية، أو القدس، إلى ارتقاء عدد كبير من الشهداء، على نحو سيؤدي إلى اندلاع مواجهة عسكرية جديدة مع المقاومة في قطاع غزة، يمكن أن تتحوّل إلى مواجهة إقليمية، تعيد مشهد ربط الساحات، بل واشتعالها، لا سيما في الداخل الفلسطيني المحتل، على غرار ما حدث في معركة “سيف القدس”، وربما بشكل أوسع.
– يخشى العدو أن يؤدي توسيع عدوانه على الضفة الغربية والقدس، إلى انتفاضة شاملة ستؤثر في استقرار جبهة الأردن، قد تصعب على نظامه السيطرة على الحدود الواسعة مع فلسطين المحتلة، والتي تصل إلى 360 كلم، في ضوء ضعف السيطرة الحالية التي أدت إلى تهريب السلاح على نحو واسع إلى الضفة الغربية، حسب مصادر العدو المختلفة.
– في ضوء المتغيّرات في البيئة الداخلية للعدو، إلى جانب ضعف شرعية حكومة نتنياهو الداخلية والشرخ السياسي/الاجتماعي داخل مجتمع العدو، تتشكل لدى نتنياهو رغبة في الهروب من حالة الاستقطاب الداخلي نحو تهديد خارجي، لكننا نرجح ألا يكون تجاه الجبهة الفلسطينية بل تجاه الملف الإيراني.
– تشكل البيئة الدولية، ورغبة إدارة جو بايدن في خفض التصعيد في المنطقة، على خلفية الحرب في أوكرانيا، وتصاعد أثر التحدي الصيني، عاملاً مؤثراً في عدم اتخاذ قرار تنفيذ عدوان واسع على الضفة الغربية أو القدس.
على الرغم من أننا نقدر بأن خيار تنفيذ عدوان واسع على القدس أو الضفة الغربية، ما زال ضعيفاً، في هذه المرحلة على الأقل، لكن اتساع العمليات الفدائية ونجاحها في إلحاق خسائر بشرية كبيرة في صفوف العدو، لا سيما تنفيذ عمليات انطلاقاً من الضفة الغربية أو القدس، داخل المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، سيعيد طرح خيار الاجتياح على طاولة تقدير الموقف للعدو، في ضوء حجم المزايدات وضغوط الجبهة الداخلية، ورغبة أحزاب اليمين الفاشي التي قد تهدد بالانسحاب من حكومة نتنياهو في حال لم يستجب لمطالبها.
الميادين نت