عن أهمّية فصل السلطات في الدّولة العصريّة
استند المفكّر الفرنسي مونتسكيو (1689 – 1755) في نظرية فصل السلطات إلى مقاربة تَعتبر أنّ للدولة وظائف “جوهرية” مُتباينة من حيث طبيعتها، ولا يمكن أن تُمارس إلّا منفصلة عن بعضها البعض. وقد عالج مُبرّراته بالتفصيل في كتابه الشهير “روح الشرائع” L’Esprit des Lois. والفصل بين السلطات ضرورة موضوعيّة، لا بدّ من تطبيقها في الأنظمة الديمقراطيّة، سواء أكانت ملكيّة أم رئاسيّة أم برلمانيّة.
لعلّ من أهمّ مبادىء الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، أو ما أُطلق عليه “بيان الثورة” في العام 1789، الفصل التامّ بين السلطات، ورفع هَيمنة الحاكم عن القضاء، وإلغاء كلّ تمييز بين المواطنين، بما في ذلك حلّ المحاكم الخاصّة التي كانت تفصل في نزاعات طبقة النبلاء، وتوحيد المحاكم بحيث تُصبح موحَّدة يخضع لها كلّ المواطنين سواسية.
إنّ خضوع السلطة القضائية لهيمَنة السلطة التنفيذيّة، يُشكّلُ العَيْب الأبرز في مسيرة الدولة. كما أنّ تشريع “غبّ الطلب” الذي تطلبه الحكومة من البرلمان بموجب “المَوْنَة الزّائدة” من أركان السلطة التنفيذية على البرلمان، يُنتِج خللاً لا تتوقَّف مفاعيله في اللحظة الراهنة، بل إنّ هذا التشريع الذي يحمل صفة “الارتجال” قد يُعطي مفاعيل عكسية على المدى الطويل، ويُهدِّد استقرار الدولة برُمّته. ذلك أنّ مبدأَيْ الشمولية والإنصاف، قاعدتان ضروريّتان لممارسة الأداء التشريعي. وممّا يؤكّد هذا الأمر هو أنّ السلطة التشريعية “جماعية” ولا يمكن ممارستها من قبل شخص أو أشخاص مُحدَّدين، كما هو الحال لدى السلطات الأُخرى في الدولة.
عندما مارست بعض الأنظمة ذات الطابع الأمني – أو العسكري – المزج بين سلطات الدولة، وحَصَرتها بمجموعة نافذين بقوّة الأمر الواقع، حصل الخطأ الكبير، وأسَّست هذه المعادلة لديكتاتورية مُقنَّعة، أطاحت بمنجزات السلطة، وأفسدت مهام الدولة وحرّفتها عن وظيفتها الأساسية في خدمة كلّ الشعب، وتحوّلت إلى خدمة الفئة الحاكمة ومَن يدور في فلكها.
تعاظُم دور الدولة في الحياة العصرية يُلزِم الفئة الحاكمة بمُمارسة العدالة في أدائها. ولعلّ أبرز وجوه العدالة في ممارسة الحكم هو الاحترام الإلزامي لفصل السلطات، وعدم الخلط بين المهام. ونزاهة الحاكم، أو عدالته ليستا ضمانة لعدم ممارسة الطغيان، نظراً لتوسُّع أجهزة الدولة وتنوّعها، وتمدُّد صلاحيّاتها أُفقياً وعمودياً، بحيث يستحيل مع هذا الانفلاش الضروري تحقيق رقابة شخصية من الحاكم بشكلٍ مباشر، ذلك أنّ هذه الوظيفة أكبر من الطّاقة الفردية للأشخاص، ولا بدّ من وجود مؤسّسات مُتخصِّصة تقوم بهذه المُهمّة.
والمؤسّسات التي يجب أن تضطلع بمهام الدولة من جوانبها المُتعدّدة، لا بدّ أن تتمتّع بالاستقلالية التي تحميها القوانين.
تجربة فصل السلطات في لبنان
تنصّ مُقدّمة الدستور اللبناني في الفقرة – ج – : إنّ لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحرّيات العامّة. وجاء في الفقرة – ه –: إنّ النّظام قائم على مبدأ فصل السلطات وتوازيها وتعاونها.
تزخرُ التجربة اللبنانية بالكثير من الحرّيات والقليل من الديمقراطية على حدّ تعبير رئيس الوزراء الأسبق د. سليم الحصّ. وتكاد الحرّيات المُتفلِّتة أن تصل إلى حدود غير مقبولة، بحيث يمكن لمسؤول في أيّ موقعٍ كان أن يمارس أداءه الوظيفي وفقاً لأهوائه الشخصية، وبحرّية تامّة، مُستنِداً إلى تداخلات فيها عوامل مُتعدِّدة، منها مدى قربه من إحدى المرجعيّات، أو قدرته على تطويع، أو محاباة، أجهزة الرقابة. ويمكن لأيّ شخص في موقع مُتقدّم أن يتدخَّل في شأنٍ ليس من صلاحيّاته، لأنّه لا يخاف من المحاسبة، أو لأنّ الحدود التي تفصل بين صلاحيات هذه المؤسّسة العامّة أو تلك غير واضحة المعالِم.
تمَّ خرق مبدأ فصل السلطات في الدولة اللبنانية – وبالتالي خرق الدستور – مرّاتٍ عديدة، ووصلت الاجتهادات الغريبة التي اعتُمدت في العديد من المرافق – التشريعيّة والتنفيذيّة وحتّى القضائية – إلى مراتب مُتقدِّمة، بحيث دخلت المهام التشريعية في صلب العمل التنفيذي أحياناً ومن دون تفويض؛ كما عاش لبنان نظاماً مجلسياً (نسبة إلى تحكُّم مجلس النوّاب) في أكثر من مرحلة. ودخلت السلطة القضائية – وخصوصاً القضاء العسكري – في لعبة التجاذبات السياسية في مرحلة ماضية (وخصوصاً إبّان الوصاية السورية التي استمرَّت من العام 1976 حتّى العام 2005)، وكانت بديلاً للرقابة البرلمانية، أو أنّها مارست بعض التسلُّط على السياقات المَدنيّة. وفي الشؤون الأمنيّة والسياسيّة، كانت هذه التدخّلات المُتنوّعة تحصل أحياناً عن قصد، وأحياناً أُخرى بدافع الضرورات الوطنية – أو الوجودية، وفي مُعظم المرَّات، استندت إلى إجتهادات لم تحصل شبيهات لها في دول أُخرى.
ووفقاً لهذه المقاربة السابقة، يُمكن إدراج مجموعة من الأمثِلة على التداخُل غير المقبول في الصلاحيّات بين السلطات الثلاث، كما بين المؤسّسات المتنوّعة في السلطة الواحدة، ولاسيّما في السلطة التنفيذية. وشهد لبنان في المرحلة القريبة الماضية تجاوزات عديدة لم تقتصر على سلطة واحدة، بل شملت البرلمان والحكومة والقضاء.
– البرلمان (السلطة التشريعية) يُحاصر الحكومة التي يحقّ لها حلِّه. فخلال العام 2006 لم يجتمع البرلمان على الرّغم من طلب الحكومة، بدافع تعطيل التشريع في ملف طلبته الحكومة ذاتها، وهو الإجازة لها إبرام معاهدة مع مجلس الأمن الدولي لإنشاء محكمة دولية مُختلطة، لتعقُّب قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه؛ ما اضطرَّ الحكومة إلى التوافق مع مجلس الأمن على إنشاء المحكمة بقرار دوليّ، أسهمت فيها الدولة اللبنانية من دون غطاء تشريعي، علماً أنّ الاتفاقيات الخارجية عادةً يجب أن تُعرَض على البرلمان لتصديقها. ومنذ بداية العام2006 لغاية صيف العام 2016، يمتنع مجلس النوّاب عن إقرار موازنة الدولة، وتُنفِق الحكومة الأموال العامّة عن طريق القاعدة الاثنَي عشرية، علماً أنّ هذه القاعدة تُعتمد لتغطية مصارفات لبضعة أشهر إذا ما تأخّر تصديق الموازنة من قِبل مجلس النوّاب، ولا يمكن أن تُعتمَد كقاعدة قانونية للصرف الدائم، عملاً بمبدأ “سنوية الموازنة”، ومراعاةً للتضخُّم. أمّا الاعتمادات الاستثنائية التي يُقرّها مجلس النوّاب ويسمح بموجبها للحكومة بالصرف الإضافي، فلا يمكن أن تُشكِّل بديلاً عن الموازنة العامّة، وخصوصاً أنّ هذه الاعتمادات تجاوزت قيمتها مُجمل الإنفاق الذي أُقرَّ في قانون موازنة العام 2005، بحيث وصل رقم الإنفاق العامّ للدولة في نهاية العام 2015 إلى 20655 مليار ليرة، في حين لا يتجاوز ما رصدته موازنة 2005 الـ 10000 مليار. كما أنّ عدم إقرار الموازنة طيلة عشر سنوات يُعتبر بمثابة الردّ لها، ما يُوجِب على الحكومة حلّ البرلمان وفقاً لما تنصّ عليه الفقرة – 4 – من المادّة 65 من الدستور.
– الحكومة اللبنانية (السلطة التنفيذية) تجاوزت مبدأ فصل السلطات مرّات عدّة. والمراجعة التي قدّمها كلٌّ من الرئيس السابق حسين الحسيني والنائب غسّان مخيبر والوزير السابق إلياس سابا أمام مجلس شورى الدولة، والتي تُطالب بإبطال نفقات الحكومة لزيادة الرواتب والأجور عام 2015، لأنّها لا تأتي من ضمن الموازنة كما يفرض القانون، كانت بمثابة الدليل الواضح على تجاوز حدّ السلطة، على الرّغم من أنّ مجلس الشورى ردَّ هذه المراجعة بالشكل (وليس على المضمون)، لتناقضها مع المادّة 106 من نظام مجلس شورى الدولة الذي يفرض أن يكون صاحب المراجعة، مُستفيداً، أو مُتضرّراً من الوضعية، وهذا بطبيعة الحال لا ينطبق على أصحاب المراجعة السابق ذكرهم من الرؤساء والوزراء السابقين والنائب الوارد ذكرهم أعلاه.
المسّ باستقلاليّة القضاء
هناك أمثلة عديدة على تداخُل صلاحيّات السلطة التنفيذية مع السلطة القضائية، حيث ما زال تعيين القضاة في لبنان يخضَع لقرار مجلس الوزراء، كما يتمّ تعيين أهمّ المواقع القضائية بالكيفية نفسها التي يتمّ فيها تعيين موظّفي الفئة الأولى، وخصوصاً رئيس مجلس القضاء الأعلى، ومدّعي عامّ التمييز، ورئيس هيئة التفتيش القضائي، والمدّعي العامّ المالي. كذلك، فإنّ التشكيلات القضائية اشترطَت موافقة وزير العدل عليها قبل أن تُصبح نافذة. وهذا الأمر يَمسُّ باستقلالية السلطة الثالثة، وربما يؤثّر على بعض أعمالها.
قانون المجلس الدستوري رقم 250/1993 الذي صدر بموجب المادّة 19 من دستور العام 1990 (وهو هيئة مستقلّة لها صفة قضائية وفقاً لما جاء في المادّة الأولى من القانون) ينصّ على آلية لتعيين أعضائه العشرة فيها الكثير من التشابك، ولاسيّما لناحية اختيار خمسة من هؤلاء من قبل مجلس الوزراء بأغلبية الثلثين؛ وهذا التعيين يُدخِل تأثيراً من السلطة التنفيذية على جانبٍ من السلطة القضائية العليا التي يمثّلها المجلس الدستوري كمرجع للبتّ بالنزاعات الناتجة عن تجاوز التشريعات للقانون الدستوري. وللمجلس الدستوري وحده حقّ الفصل في الطعون النّاتجة عن الانتخابات النيابية والرئاسية. وهاتان المهمّتان قضائيّتان بطبيعتهما. علماً أنّ الأعضاء الخمسة الآخرين في المجلس الدستوري ينتخبهم مجلس النوّاب.
الوزير السابق إلياس سابا قال في أعقاب ردّ مجلس شورى الدولة لمراجعتهم حول عدم قانونية الصرفيّات من دون إقرار الموازنة: “إنّ القُضاة في لبنان يأتون بقرارٍ سياسيّ، وبالتالي فهم يدافعون عن مصالح السياسيّين بطبيعة الحال”.
والأمثِلة على تجاوز حدّ السلطة، وعلى عدم الفصل تماماً بين السلطات مُتعدّدة؛ فهناك مَن يبني منزلاً ببرقية تصدر عن مدير عام قوى الأمن الداخلي مثلاً، على الرّغم من أنّ هذا الأمر هو من صلاحية رئيس البلدية حصراً وفقاً للمادّة 74 من القانون رقم 118/77.
لا يعني كلّ ما ذُكر أنّ لبنان ليس بلداً ديمقراطياً، أو أنّه لا يمارس فصل السلطات، ولكنّ الشوائب الناتِجة عن سوء التطبيق كبيرةٌ جدّاً.
*أستاذ في العلوم السياسيّة والقانون الدولي العامّ- لبنان
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي).