عن الجانب المُغيّب من سيد قطب
في بداية كتابه “الإخوان وسيّد قطب”، يتطرق الباحث سعود المولى إلى البدايات الأولى لسيد قطب، فيستعرض في عجالة المعلومات الخاصة بتاريخ ميلاده في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 1906م، ومكان ولادته في مسقط رأسه بقرية الموشا الواقعة في محافظة أسيوط في صعيد مصر.
بعدها، يلقي المولى الضوء على عائلة قطب، وكيف أثّر أفراد تلك العائلة في تكوينه المعرفي الأول، فيوضح أن والد سيد قطب قد ترك أثراً مهماً في نفس ابنه من حيث ميله الفطري للتديّن، كما أن أمه والتي سافرت معه إلى القاهرة فيما بعد، قد دفعته دفعاً نحو خط الالتزام الديني بأداء الفرائض والشعائر الإسلامية.
في عام 1921، انتقل قطب للإقامة في القاهرة، عند خاله الذي كان يكتب المقالات في بعض الصحف المشهورة حينذاك، وهناك التحق بمدرسة المعلمين وحصل على الإجازة منها في عام 1928، قبل أن يستكمل دراسته في كلية دار العلوم والتي حصل منها على شهادة الليسانس في الأدب، تخصص لغة عربية.
بعد ذلك يسلط المؤلف الضوء على الوظائف التي شغلها قطب في المرحلة المبكرة من عمره المهني، فيوضح أنه قد اتجه للعمل بالتفتيش التربوي ومراقبة الثقافة في وزارة المعارف، قبل أن يصبح مديراً لمكتب رئيس قسم الثقافة في الوزارة. وكان كل ذلك يتم بالتوازي مع اشتراكه في تأليف بعض الكتب المدرسية، المُقررة على طلاب المرحلة الابتدائية.
سيد قطب: الناقد والأديب
ربما كانت شهرة سيد قطب الرئيسة تعتمد على إسهاماته الفكرية المتعددة فيما يخص الدراسات الدينية ومقترحاته التنظيرية بشأن العمل الحركي الإسلامي. ولكن مع ذلك، فإن تاريخ قطب يشهد على كونه واحداً من أهم الأدباء البارزين والنقاد الألمعيين الذين ظهروا في مصر في النصف الأول من القرن العشرين.
تلك المسألة، يوليها المؤلف اهتماماً كبيراً في كتابه، حيث يؤرخ للمراحل المتعددة التي أسهمت في بزوغ اسم قطب على الساحة الأدبية النقدية.
يؤكد المولى على أن دراسة سيد قطب في كلية دار العلوم قد تواكبت زمنياً مع عدد من المتغيرات العالمية، والتي أسهمت كثيراً في فقدان الثقة في مكتسبات الديموقراطية والليبرالية الغربية. ففي ظل الإنتدابات الأوروبية على الدول العربية من جهة وممارساتها القمعية من جهة أخرى، ساد اتجاه تجديدي لدى الأدباء العرب، وكان أصحاب هذا الاتجاه يميلون لإعادة التنقيب في موروثاتهم الثقافية الإسلامية، لإيجاد موارد أخرى للإبداع، فنجد محمد حسين هيكل يكتب كتاب “حياة محمد”، وأحمد حسن الزيات يُصدر مجلة الرسالة، وطه حسين ينشر “على هامش السيرة”، كما أن توفيق الحكيم نشر كتابه “محمد الرسول البشر”.
في ظل تلك الأجواء – المتوافقة مع مفردات تكوين شخصية سيد قطب- اتجه الأديب القادم من قلب صعيد مصر، إلى دعم مدرسة جماعة الديوان، والتي كان كل من عباس محمود العقاد وعبد الرحمن شكري وإبراهيم المازني، من بين أهم مؤسسيها، والتي دعت إلى التجديد في الشعر العربي، وإلى الصدق في الإحساس والتعبير والبعد عن التكلّف والتصنّع.
دعم قطب لذلك الاتجاه الأدبي ظهر جلياً في مقالاته النقدية التي تم نشرها في صحف ومجلات الأسبوع والرسالة والمقتطف والأهرام والبلاغ والهلال والعالم العربي والفكر الجديد.
ويؤكد سعود المولى، على أن سيد قطب في تلك المرحلة الواقعة ما بين عامي 1932 و1948، لم يكن يكتفِ بالمقالات النقدية فحسب، بل أنه أيضاً قد دخل في العديد من المعارك الثقافية والأدبية مع بعض من كبار رموز الحياة الثقافية المصرية حينذاك.
من أهم تلك المعارك، وقوفه في صف أستاذه عباس محمود العقاد ضد جماعة أبولو، ومهاجمته الدكتور طه حسين عقب نشره لكتاب “مستقبل الثقافة في مصر”، والذي دعا فيه عميد الأدب العربي صراحة إلى اعتبار مصر جزءاً من جغرافية وثقافة وحضارة البحر الأبيض المتوسط، وأن على المثقفين المصريين أن يعودوا إلى الثقافة المتوسطية، وأن يعطوا ظهرهم لما عداها، وهي الأفكار التي رد عليها قطب بشكل تفصيلي فيما بعد، من خلال مقاله الشهير المعنون بـ”نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر”.
المثير هنا، ما يلاحظه المولى، من أن قطب في تلك المرحلة قد وقف مع عباس العقاد في عدد من المعارك ضد المفكرين والمثقفين المحسوبين على الخط الإسلامي، من أمثال مصطفى صادق الرافعي، ومحمود شاكر، ومحمد سعيد العريان.
ويلاحظ المؤلف أن وقوف قطب في تلك المرحلة بجوار كاتب محسوب كونه علمانياً مثل العقاد، ضد كتاب إسلاميين مثل الرافعي، قد جرّ عليه سخط الفصيل الإسلامي كلّه، والذي كانت جماعة الإخوان المسلمين تقف وقتها في الطليعة منه. ولذلك فإن هناك عدداً من الروايات المنتقدة لقطب في تلك المرحلة، يرى المؤلف أنها قد ظهرت في سياق تلك المنافرة ما بين قطب والإسلاميين، ولعل واحدة من أهم تلك الروايات وأكثرها انتشاراً وذيوعاً، هو المقال الذي نُسب إلى سيد قطب في جريدة الأهرام، والذي دعا فيه صراحة إلى حرية التعري على الشواطئ، وهو الأمر الذي يكذبه سعود المولى يشكل قاطع، ويرى فيه فرية وضعها بعض الإخوان الساخطين على الأديب الصعيدي في تلك الفترة المبكرة من حياته.
كيف وصف نجيب محفوظ سيد قطب؟
من الأمور التي يجهلها الكثيرون ممن تناولوا شخصية سيد قطب، أن ذلك المفكر الإسلامي صاحب التنظيرات “الجهادية” و”التكفيرية”، كان هو نفسه الناقد الأدبي الذي قدم إلى القراء نجيب محفوظ للمرة الأولى، وذلك في كتابه المعنون بـ”كتب وشخصيات”، عندما مدح رواية محفوظ “خان الخليلي”، وأسهب في تبيان محاسنها ومعالم تميّزها وتفردها، فقال عنها “إنها خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي واضح السمات متميز المعالم، ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية –مع انتفاعه بها- نستطيع أن نقدمه مع قوميته الخالصة على المائدة العالمية، فلا يندغم فيها ولا يفقد طابعه وعنوانه، في الوقت الذي يؤدي رسالته الإنسانية، ويحمل الطابع الإنساني العام، ويساير نظائره في الآداب الأخرى”.
ويعرّج المولى، بعد ذلك، لإظهار مقالة محفوظ في سيد قطب، فيؤكد على أن محفوظ قد تطرق إلى شخصية قطب المثيرة للجدل، في مجموعته القصصية المعنونة “المرايا”، وهي مجموعة قصصية ضمن بها محفوظ قصص خمسين شخصية مؤثرة في المجتمع المصري، في الفترة التاريخية الواقعة ما بين ثورة 1919 وحتى وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1970، وكانت جميع الشخصيات الواردة في المجموعة، تشترك في كونها لها علاقة بمحفوظ بشكل أو بآخر.
محفوظ، تكلم بشكل إيجابي جداً عن سيد قطب، فوصفه بالعلم والدراية والتمكن في حقلي الدراية والنقد، ووصفه كذلك بأنه مثله مثل الأسطورة التي يحتار الناس في تفسيرها وفهمها، ولكن مع ذلك كله، فإنه يؤكد أن قطب كان صاحب شخصية انتهازية وإن كانت غير واضحة للكثير ممن عايشوه وصاحبوه.
قطب: بين القرآن والفن
بعد ذلك ينتقل المؤلف إلى واحدة من أهم المحطات التي مرّ بها سيد قطب في حياته، وهي المحطة التي خصصها لتفسير القرآن الكريم، أو بالأحرى التي كتب فيها خواطره القرآنية.
يعتقد المولى أن سيد قطب كان صاحب مدرسة تفسيرية شديدة الخصوصية فيما يتعلق بسبل وطرق التعامل مع القرآن، فهو لم يسِر كما سار غيره من المفسرين المعاصرين أو القدامى، على نهج التعامل مع الآيات القرآنية على كونها تحتوي على إعجاز لغوي واضح، بل أنه أدعى أن إعجاز القرآن، يتمثل في أساليبه البيانية وتصوراته الجمالية الحسية الثرية، والتي تتناثر في كل صفحات المصحف.
يرى المؤلف أن قطب تأثر في ذلك التوجه، بخلفيته الأدبية القوية، والتي جعلته يتعامل مع القرآن وكأنه نص أدبي يتعالى عن النقد، ويحتاج لإظهار ما به من مواطن للإعجاز الإلهي والبلاغة المطلقة “إذ يعتبر سيد (قطب) أن استخدام القرآن للتصوير أداة ووسيلة وطريقة وصلت إلى درجة الإعجاز، هو دليل إضافي على مرجع القرآن الإلهي، وكان سيد كثيراً ما يقف بعد الانتهاء من تفسير آية من الآيات ليبيّن الجمال في السياق والعرض والتنسيق والأداء، وفق منهجه الفريد في النظر إلى نصوص القرآن من زاوية جمالية”.
ويعتقد المولى أن أهم وأخطر إضافات وإسهامات سيد قطب في مجالاته الأدبية النقدية، تتمثل بشكل واضح في حريته وجرأته في تناول الكتب المقدسة بهذا المنظار، وقد عبّر قطب نفسه عن أهمية تحليل القرآن بتلك الطريقة النقدية الأدبية، وتحدث عن ذلك بإسهاب في كتابه “الصور والظلال في الفن”، عندما قال: “كيف يكون القرآن هو كتاب العرب الأول، ثم لا يستفيد الأدب العربي من طريقته الأساسية شيئاً بعد نزوله وتيسيره للذكر في أيديهم إلا فلتات في ديوان كل شاعر، هي امتداد للتصوير في الأدب الجاهلي وعلى طريقته، لا على طريقة القرآن الرفيعة”.
ويلاحظ المؤلف أن حاسة النقد عند سيد قطب لم تتوقف عند القرآن الكريم فحسب، بل أنه قد طبق نظريته الأدبية، على عدد من الكتب المقدسة الأخرى، ومن أهمها الكتاب المقدس، حيث قام بنقد نشيد الأنشاد، والتفت لما فيه من معانٍ وصور حسية رائعة، وقام بتقريظ ومدح تلك التعبيرات أكثر من مرة، من دون أن يبدي اهتماماً بمحاولة انتقاد النص الكتابي أو إظهار مواطن الخطأ التاريخي فيه، كما يميل إلى ذلك الأغلبية الغالبة من الباحثين المسلمين المعنيين بعلوم نقد الأديان.
ولم تقتصر مجهودات سيد قطب النقدية على الكتب المقدسة فحسب، بل أنه قام كذلك بالعمل في نقد واستكشاف العديد من النصوص الأدبية غير العربية، ومنها على سبيل المثال قصائد حافظ الشيرازي الغزلية، والتي تمت ترجمتها إلى اللغة العربية على يد إبراهيم أمين الشواربي.
ويلفت الملف نظر القراء إلى أن قطب لم يكتفِ بالنقد الأدبي، بل أنه قام كذلك بممارسة الكتابة الأدبية والروائية، فكتب عدداً من الروايات والقصص، ولعل أشهرها هي رواية “أشواك”، والتي يحكي فيها عن معاناته الشخصية مع حبيبته التي قام بخطبتها ولكن لم يُقدّر له الزواج منها، فظل طوال حياته وحيداً منعزلاً في منأى عن المجتمع والناس.
سيد قطب في أميركا
يعتقد المولى أن المرحلة التي بدأت مع نشوب الحرب العالمية الثانية في 1939-1940، وانتهت في 1948 مع نكبة فلسطين، كانت هي المرحلة الأبرز والأهم في تحويل المسار الفكري للعديد من المفكرين العرب والمصريين، ومنهم سيد قطب على وجه الخصوص. ففي تلك المرحلة الزمنية، عاين المفكرون العرب الذين لطالما أشادوا من قبل بمنجزات الحضارة الغربية، أشد وأقسى ما في تلك الحضارة من مظالم، تلك التي ظهرت بشكل واضح في الحرب العالمية الثانية، والتي راح ضحيتها ما يربو عن الخمسين مليوناً من البشر في قارات العالم الست.
الكثير من المفكرين العرب في تلك الفترة، استهجنوا الحضارة الغربية برّمتها، واعتبروها المسؤول الأول عما لحق بالبشرية من خراب وظلم ودمار، ووجدوا أن أسس الحضارة الإسلامية تعدهم بعالم طوباوي تتسيد فيه القيم والمبادئ السامية، وتحل بديلاً محل الروح المادية النهمة التي تتصف بها الحضارة الغربية.
في الفترة ما بين 1940-1946، كتب قطب العديد من المقالات عن الأوضاع الاجتماعية الصعبة التي تمر بها الشعوب العربية، وردد الكثير من الكلام عن الديموقراطية والمساواة واستحسان الاشتراكية وأهمية العدالة الاجتماعية، ورأب الصدع الناتج عن الفروقات الطبقية.
تلك الأفكار التي نشرها قطب من خلال مقالاته في مجلة الشؤون الاجتماعية، حدت به إلى الدخول في صراع سياسي عنيف مع القصر الملكي والتيارات الفكرية المؤيدة له، وفي وسط مشاداته ومعاركه السياسية الفكرية، نشر قطب مقاله في جريدة المقتطف، والذي تحدث فيه عن التصوير الفني في القرآن، وهو المقال الذي يُعد بمثابة نقطة مفصلية حقيقية في المسار الفكري لقطب، حيث لم يمر الكثير من الوقت حتى قام قطب بنشر كتاب بالعنوان نفسه، وتحدث فيه عن كيفية اهتدائه إلى طريق القرآن، وكيف أنه قد توصل إلى أن التدبر المتأني في كتاب الله، قد فتح أمامه أبواباً عدة من الفهم والإيمان واليقين.
وفي ظل تلك التغيّرات الجديدة التي أصابت المفكر الإسلامي، قام بإصدار كتابه المعنون “العدالة الاجتماعية في الإسلام” في عام 1948، والذي يُعد أول كتبه التي احتوت على معالم نظريته السياسية الإصلاحية التي تتخذ من الإسلام سبيلاً إلى للحل.
هذا الكتاب تحديداً أثار الكثير من الجدل والصخب في الأوساط الثقافية والفكرية في مصر، ويرى المؤلف أنه من المحتمل، أن رجال القصر الملكي قد قاموا في ذلك الوقت بتسهيل حصول قطب على منحة الدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، لإبعاده عن الساحة الفكرية المصرية خوفاً من قيامه بمتابعة الكتابة في ذلك الموضوع بالذات.
كانت تلك البعثة تحت عنوان دراسة المناهج التعليمية في الولايات المتحدة الأميركية، وكانت مدتها سنتان، حيث سافر في آب – أغسطس من عام 1948 ورجع منها في عام 1950.
وتعج كتابات قطب في تلك المرحلة، بمظاهر رفض المجتمع الأميركي بشتى الصور، فهو يعبّر مراراً عن افتقاد ذلك المجتمع إلى الروح والعاطفة اللتين تنتشران في الشرق، ويؤكد على أن المنجزات المادية التي قدمتها الحضارة الأميركية لا تستطيع أن تناهض الروح الأصيلة والقيم السامية التي قدمتها من قبل الحضارة الإسلامية. فهو يقول في كتابه المعنون بـ”أميركا التي رأيت”: “أميركا هذه كلها، ما الذي تساويه في ميزان القيم الإنسانية، وما الذي أضافته في رصيد القيم البشرية من قيم أو يبدو أنها ستضيفه إليه في نهاية المطاف؟ أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أميركا وعظمة الإنسان الذي ينشئ هذه الحضارة، وأخشى أن تمضي الحياة ويطوى سجل الزمن وأميركا لم تضف شيئاً – أو لم تضف إلا اليسير الزهيد – إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم التي تميّز بين الإنسان والشيء، ثم بين الإنسان والحيوان”.
ويلف المولى نظر قرائه إلى الحاسة النقدية المتميزة التي عُرف بها سيد قطب أثناء كتابته عن المجتمع الأميركي، فهو قد استطاع في كتاباته أن يتعرض إلى مواطن القصور في ذلك المجتمع، وذلك من خلال مشاهداته التي حصلها في جميع المجالات التي أتيحت له التوغل فيها في هذا العالم الجديد.
في تلك الظروف الصعبة والمربكة، تبلور المشروع الإسلامي في فكر سيد قطب، حيث اعتقد أن الإسلام يحتوي على المبادئ التي من شأنها أن تكون بديلاً ناجحاً لمثيلتها المنتشرة في الغرب، ومن هنا فلم يكن غريباً أن يحزم قطب أمره، أثناء تواجده في أميركا، على أنه سوف يترك ميدان النقد الأدبي إلى غير رجعة، وأنه سيصرف همّه الأكبر وشغله الشاغل إلى بلورة وصياغة مشروع فكري اجتماعي سياسي مستمد من الفكر الإسلامي نفسه. ولعل أقوى شاهد على ذلك، كان تلك الرسالة التي أرسل بها قطب من أميركا إلى صديقه أنور المعداوي، والتي جاء فيها: “تنتظر عودتي لأخذ مكاني في ميدان النقد الأدبي!ّ. أخشى أن ذلك لن يكون، وأنه من الأولى لك أن تعتمد على نفسك إلى أن ينبثق ناقد جديد!. إني سأخصص ما بقي من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل يستغرق أعمار الكثيرين، ويكفي أن أجدك في ميدان النقد الأدبي لأطمئن إلى هذا الميدان”.
قطب والإخوان المسلمون
يعتقد المولى أن الصفحات الأخيرة من كتاب “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، تشي بأن قطب قد تأثر بفكر حسن البنا وأبي الأعلى المودودي قُبيل رجوعه إلى مصر، حيث يستعرض المؤلف أفكار الحاكمية والتوحيد المطلق والجاهلية، ويؤكد على أن تلك الأفكار التي وردت بشكل مختزل ومختصر في كتاب “العدالة الاجتماعية”، كانت هي نفسها التي تم تناولها بشكل موسع في كتب قطب الأكثر شهرة والأكثر جدلاً، والتي يقف كتاب “معالم في الطريق” في طليعتها.
بعد رجوعه من الولايات المتحدة، قدم قطب تقريراً إلى قيادات وزارة المعارف، هاجم فيه مناهج التعليم الأميركية وأدعى بأن تلك المناهج لا تتسق مطلقاً مع الثوابت والمبادئ الإسلامية، وبحسب ما يذكر المؤلف فإن ذلك التقرير قد أثار ضجة كبيرة في الوزارة وقتها.
في تلك الفترة تحديداً، كانت هناك صلة قوية تنشأ بشكل سريع ما بين قطب و”الضباط الأحرار” من جهة، وبينه وبين “جماعة الإخوان المسلمين” من جهة أخرى. وفي عام 1953، وبعد قيام ثورة الضباط الأحرار ونجاحها، وقع الخلاف ما بين قطب وقادتها، فانفصل عنهم بشكل كامل، واتجه إلى الانخراط التنظيمي الكامل في “جماعة الإخوان المسلمين”، حيث تم اختياره ليصبح أحد أعضاء مكتب الإرشاد، وليشرف على مجلة “الإخوان المسلمين”.
كان ترؤس قطب لإدارة تحرير مجلة الإخوان المسلمين، ونشره لعدد من المقالات المنتقدة للنظام الحاكم، سبباً في غضب السلطة عليه. وفي أواخر 1954، تم تقديمه إلى المحاكمة بتهمة الاشتراك في محاولة اغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر في حادث المنشية، حيث حُكم عليه بالسجن لمدة 15 عاماً.
في عام 1964، تم الافراج عن سيد قطب بعفو صحي بقرار من رئيس الجمهورية، بعدما ناشده في ذلك الرئيس العراقي عبد السلام عارف. لكن وبعد أقل من عام واحد من إطلاق سراحه، تم القبض عليه مجدداً في عام 1965 مع عشرات من عناصر “جماعة الإخوان المسلمين”، حيث وجهت إليهم تهمة إنشاء تنظيم يهدف إلى قلب نظام الحكم وتدبير عمليات إرهابية ضد بعض الشخصيات القيادية وتدمير عدد من المنشآت العامة، فأُصدر ضده حكم بالإعدام مع عدد من كبار رجال التنظيم، وتم تنفيذ الحكم في 29 آب – أغسطس 1966.
الإرث الفكري لسيّد قطب
في كتابه “سيد قطب من الميلاد للاستشهاد”، يميّز صلاح الخالدي بين ثلاث مراحل مرت بهم كتابات قطب الإسلامية الطابع.
المرحلة الأولى، وهي تلك التي غلب عليها الجانب الفني والأدبي، وفيها نشر قطب كتابيه “التصوير الفني في القرآن” في عام 1945، و”مشاهد القيامة في القرآن” في عام 1947، وقد عمل قطب في كليهما على تبيان نماذج من الصور الفنية الرفيعة الواردة في القرآن الكريم.
أما المرحلة الثانية، فقد بدأت منذ وجود قطب في أميركا، حيث كتب فيها عدداً من الكتابات الفكرية الإسلامية العامة، ومن أهمها “العدالة الاجتماعية في الإسلام” في عام 1949، و”معركة الإسلام والرأسمالية” في عام 1951، و”السلام العالمي والإسلام” في العام نفسه.
أما أهم كتبه في تلك المرحلة، فكان “في ظلال القرآن” وهو تفسير موضوعي للقرآن الكريم، نشره قطب في شكل حلقات متسلسلة، وتم طرحه في شكل مجلدات مجمعة فيما بعد.
المرحلة الأخيرة، في حياة سيد قطب الفكرية، كانت هي المرحلة الثالثة، والتي امتدت منذ لحظة انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين وحتى وفاته. في هذه المرحلة أعاد قطب نشر كتابه “في ظلال القرآن” بعد أن أجرى عليه بعض التعديلات والتنقيحات التي تتوافق مع ما استجد عليه من أفكاره وأراه، ومن أهم المؤلفات التي أصدرها في تلك الفترة، “هذا الدين”، و”الإسلام ومشكلات الحضارة”، و”خصائص التصور الإسلامي”.
أما كتابه الأكثر شهرة، فكان “معالم في الطريق” الذي صدر في عام 1964. ومن المعروف أن هذا الكتاب قد تم تأليفه على شكل فصول أثناء وجود قطب في مستشفى السجن، حيث كان يقوم بتسريب تلك الفصول تباعاً إلى الخارج بواسطة أخته أثناء زيارتها له.
ويؤكد يوسف العظم في كتابه “الشهيد سيد قطب: رائد الفكر الإسلامي المعاصر” أن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين حسن الهضيبي، كان قد قرأ مسودة الكتاب قبل طباعته، وأنه هو الذي اتخذ القرار بنشره وتوزيعه على أعضاء الجماعة الموجودين خارج السجون.
“معالم في الطريق” وتكفير المجتمع
يُعد كتاب سيد قطب، “معالم في الطريق”، بما تضمنه من مفاهيم الجاهلية والحاكمية والاستعلاء، وضرورة البعد عن المجتمعات الكافرة، بمثابة الدليل الفكري والمرجع التنظيري الأول للجماعات “الجهادية” المتطرفة، لما فيه من أفكار مؤسسة لا غنى عنها في مسار هذا الفكر المتطرف. ويلاحظ، أن الكتاب يحمل بين طياته تصورات عمومية ورؤى فكرية شاملة، ولا يهتم بالخوض في التفصيلات الفقهية الدقيقة، وهو الأمر الذي ساعد على انتشاره بين الكثير من الجماعات الأصولية والتكفيرية برغم ما يوجد بينها وبين قطب من اختلافات وتباينات في وجهات النظر والآراء.
في هذا الكتاب تحديداً، تظهر الأفكار الثورية واضحة في كتابات قطب، عندما يبدأ في عرض أفكاره حول الكيفية التي يخرج بها المجتمع من الحالة الجاهلية التي يعيش فيها، وكيف يستطيع هذا المجتمع أن يحقق نموذجه الإسلامي المتفرد.
وتظهر دعوة قطب لتطبيق الشريعة الإسلامية في قوله: (والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب نظام وأن يصوغ تشريعات للحياة… بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه… الذين يريدون من الإسلام هذا، لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة… كما يريد له الله).
ومما لا شك فيه أن كتاب سعود المولى “سيد قطب والإخوان” يعتبر إحدى الدراسات الفكرية الجدية التي اهتمت بدراسة المنظر الإسلامي الأصولي سيد قطب. فقد عمل المولى عبر صفحات كتابه على استعراض العديد من الجوانب الخفية في شخصية قطب، وتتبع الكثير من النقاط الجدلية الشائكة التي ارتبطت بسيرته. ولكن مما تجب ملاحظته أن المولى كان متعاطفاً كثيراً مع سيد قطب فمال دائماً إلى تأييد ونصرة وتبرير أفكاره، ولم يعمل على تبيان آراء الصف المعارض لقطب، ولا سيما في المفاهيم الإشكالية الكبرى التي ارتبطت باسمه، ومنها الحاكمية والجاهلية والتكفير والاستعلاء والهجرة.
الميادين