عن العلمانية التي فاتتنا (1) (نصري الصايغ)
نصري الصايغ
أين نحن؟
في أي غربة؟ في أي استراحة؟ بل في أي غيب أو في موقع انفصام؟ أجائز ونحن على رحيل أن نتحدث عن قضية مفقودة، عن علمانية فاتتنا، عن أمل مطعون بنسياننا وإهمالنا؟ أليس في الأمر غرابة، ونحن في ذروة المأساة، أن نتحلق حول مفهوم مأسوف عليه؟ حول مسألة لم تعد حاضرة وإحضارها اليوم عبث؟ ألا يقال عنا إننا مصابون بانفصام علني؟ فما نحن فيه لسنا ما نلتقي حوله اليوم، ولسنا ما نفكر فيه اليوم، وليس ما نبحث فيه اليوم. نحن اليوم على جهة الهاوية من الحافة، ونبدو في الكلام على العلمانية، كأننا نفتش عن جنس الملائكة.
أين نحن؟
نعيش عن بكرة شعوبنا في الحقبة السوداء، في ما تبقى من المشرق العربي. إننا إزاء ظلام ظلامي، ودامس سياسي أشد ظلامية، واستعار دولي أشد أصولية… نحن في موقع لا نشهد على شيء من خارجنا، بل نشهد على ما نحن فيه وعليه ومعه. نحن الشهود والمشهد. والمشهد لا يرسم معالم تغيير، بل معالم انهيار تام، لأمة وشعب وقيم وعقائد وأفكار وأديان وقيادات ومجموعات وتجمعات ومؤسسات وثقافة وإعلام وكتاب ودعاة ورجال ونساء… وأحلام. نحن اليوم نصنع التاريخ الذي يسقطنا منه. إننا في قافلة السقوط من الوجود، وسط عويل القتل وفحيح الجريمة المعممة. إننا عالم يسقط، وكأننا بصدد الانتهاء منا.
العاصفة التي تضربنا من كل الشواطئ والأعماق والعلاء، لن تترك لنا شاطئا نرسو عليه، غير القعر. ما الذي يصمد؟ بل ما الذي يقف على قدميه؟ إنا أمة تزحل من مطارحها إلى المقصلة.
قاس هذا الكلام؟
هو مجرد كلام، فكيف إذا عشناه في الواقع، والملايين من شعبنا تعيشه في الشام وما بين النهرين وما بين تخومهما وما بعدها.
هو شيء من تاريخ لم نعشه بعد. تاريخ يجرجرنا. عشنا ما يشبهه في أعقاب الحرب الكونية، بعدها، انتهت مأساتنا العثمانية وبدأت جلجلتنا الاستعمارية المتوحشة. ما كان لنا عند العثمانيين، أخذوه مباشرة منا في «سايكس ـ بيكو» و«وعد بلفور». ما كان من حصتنا، كحق طبيعي، بل كحق المنتصرين على العثمانيين مُنع عنا. كوفئنا بالعقاب. أخذت منا حقوقنا بالقوة والسفك والتدمير والاغتيالات، في ميسلون وما بعدها. أخذ الغرب المتحضر، الديموقراطي، العلماني، مالنا، وسلّمه لوكلاء منا، علينا، وبتنا في العراء، بلا دولة، ولا حرية، ولا سيادة ولا…
يومها، دخلنا في عنف أصيل: عنف من خارج وعنف من داخل، عنف يهندس في الغرب على خريطة الطوائف والمذاهب، وعنف من داخل ينشئه ويربيه ويزيده، الظلم الإقطاعي، والنبذ الديني، والتعصب الطائفي والعنصرية المذهبية والكيانية الانعزالية، والقطرية الانتهازية والسلطات الفاسدة، والديكتاتوريات المستبدة، والأصوليات الرهابية، والاجتياحات التي جعلت من سوريا الطبيعية، وبعض جدارها، تعيش حالة حروب، هذا اليوم إحدى أسوأ مراحلها.
وها نحن في القاع، ننظر منه إلى القاع الأسفل. أخطره، قـاع العــدم. حيــث لا يبــقى ســلم نرتــقيه، لإعادة الحياة إلى أرواحنا، ها نحن في القاع… مع استثناء يجعلنا نعطي للأمل حيزاً هاماً من حياتنا… المقاومة التي فازت بالمستحيل، وطردت العدو الصهيوني، بكامل جبروته، تمنحنا فرصة التماثل معها، في ميدان آخر.
كانت المقاومة في البدايات المتكررة، مشروعاً مستحيلا، وطموحاً باسلا غير قابل للتصديق، إلى أن سطعت شمس «25 أيار». من قلب الانهيار الكبير، بعد النكسة، تعملقت المقاومة الفلسطينية، ومن قلب الاحتلال الساحق للبنان، تعملقت المقاومة اللبنانية…
إذا، وفيما نحن نعاني أهوال السقوط القومي والاجتماعي والأخلاقي والقيمي والروحي، لا بد، ربما، وقد لا، ان يخرج أحد ما، ويبدأ نضاله ومقاومته، لبناء الدولة القوية، الديموقراطية العلمانية القادرة على الوفاء لإنسانها وقضاياه ومصالحه.
المقاومة مستحيل تحقق. خرجت من الركام وفازت.
فهل لدينا الجرأة لنحلم بمستحيل آخر يتحقق.
أذكر حواراً مع صديق بعيد احتلال بيروت العام 82. ها هو العدو أمامنا، فلم لا نقاتله؟ فهل بالإمكان طرح السؤال: هذه هي أمة تستعد لحتفها، ألا يجدر بالبدء بمسيرة الألف ميل. عبر العمل الدؤوب والنضالي كرد تاريخي، على عدوان ما كان ممكنا تصوره في ما مضى، بهذه الطراوة.
هنا، تأخذ العلمانية موقعها، كرد على الاجتياحات التدميرية للقوى الظلامية، وتأخذ الديموقراطية موقعها، كرد على الديكتاتوريات التدميرية، وتأخذ الحرية مكانتها، كرد على الظلم التاريخي الذي قمع الفرد والجماعة والشعب، تارة باسم المصلحة العليا، وطوراً باسم الدين… هنا يأخذ الشعب موقعه، ليكون وحده مصدر السلطة وسيد محاسبتها، فلا سيد سواه.
هل هذه أضغاث أحلام…
مقدمة طويلة؟ أليس كذلك. لعل هذه المقدمة هي صلب الموضوع، وهي التي تبرر وجودنا لنسأل عن العلمانية التي فاتتنا.
نبدأ بسؤال، ونؤجل الإجابة عنه.
إذا عدنا إلى مسار العلمانية الخافت والمهمل والمنسي، نجد لزاماً علينا أن نسأل عن سبب فشلها. هل كان ذلك بسبب انعدام أهليتها بذاتها كمفهوم، أم بسبب انعدام أهلية البيئة التي وفدت إليها من خارجها، أم لعدم أهلية العلمانيين الذين آمنوا بها وعرفوها ولم يعملوا من أجلها وأحيانا عملوا ضدها؟ أرجح عدم أهلية العلمانيين، فالعلمانية براء من تهمة العجز، والبيئة براء من تهمة العاقر.
الجواب يفترض برهاناً. وهاكم ما ارتكبت:
قبل استعراض جدل غير بيزنطي، يشبه الجدل بين دعاة الإسلام هو الحل، ودعاة العلمانية، هي الحل، جدير أن نستعرض سيرة العلمانية في الوقائع العربية. سيرة العلمانية فكرياً، تنتمي إلى عالم الجدل والمنطق والتحليل. سيرة الوقائع العلمانية تنتمي إلى عالم الصراع. وبين الاثنين أنحاز إلى عالم الوقائع، على ما درجت عليه في النظر إلى المسائل. تقريباً، طلّقت الكتاب وتبنيت الوقائع، التي لا تأتي متجسدة في التاريخ متطابقة مع الأفكار والمبادئ والمفاهيم. النضال، له صياغاته الخاصة، غير الصياغات المنطقية والنظرية. ما جاء في الكتب ليس كما يجيء في التاريخ. لذلك، فإن الحكم على العلمانية غير جائز. لكن الحكم على العلمانيين، واجب وضروري وله حيثياته المادية.
فللجواب على أسئلة مثل: هل العلمانية قابلة للتصدير، أو هل هي ذات منشأ غربي، لا تتفق والبيئة العربية، لأنها جسم غريب وهي ابنة الصراع مع الكنيسة ولا كنيسة في الإسلام ولا إكليروس الخ… للجواب على هذه الأسئلة وسواها، من الأجدر الذهاب إلى الوقائع وهذا ما أقوم به.
واضح أن العلمانية في بلادها الأوروبية، «تَبَيَّأَتْ» بدولها واختلفت في تطبيقاتها. فهناك علمانية ملحدة وأخرى مؤمنة، وعلمانية محايدة بين الدين والدولة، أو فاصلة بين الاثنين. وهناك علمانيات أصولية (تركيا وفرنسا) وعلمانيات منفتحة الخ… لكل دولة علمانية تناسبها وتستقيم مع تجربتها وثقافتها وتاريخها وحاجاتها. أميركا فصلت وحيّدت بين الدين والدولة، من دون معرفتها بمفهوم العلمانية، فقد نص دستورها على ما جاء وليد الحاجة والتعدد.
إذاً، نحن إزاء علمانيات في الفكر وعلمانيات في التطبيق، ولا يطيب لرجال الدين في مجتمعاتنا، إلا انتقاء العلمانية الملحدة، لشن هجوم فاسق عليها.
من المفيد أن نضع خطوطاً حُمْرًا جازمة لتفسيرات مغلوطة عن العلمانية.
أ ـ العلمانية ليست ضد الدين أو إنكارا له أو نضالا ضده.
ب ـ العلمانية الملزمة، بالقوة العسكرية أو قوة السلطة، أي العلمانية القمعية، مآلها الاستبداد، وحذف المؤمنين من المجال العام العلني، وإلزامهم باللجوء إلى التخفي والتقية والباطنية. والتنظيمات المضطهدة العلمانية التي تقاتل الدين، لا تفوز عليه.
ج ـ العلمانية ليست تمييزاً بين ما هو زمني وما هو روحي. فهي في أبرز تجلياتها المعتدلة: فصل بين السياسي والديني، أي استقلال الدولة عن الدين، وعدم استتباع الدين للدولة. فللدولة سيادة على المادة، الاجتماعية السياسية المتغيرة، وللدين سيادته على الروح بلا إكراه.
د ـ ليست العلمانية عقيدة أو فلسفة أو ايديولوجيا أو ديناً جديداً. كما هي ليست عقداً اجتماعياً. هي قرار من جانب واحد، وليست عقداً بينها وبين الدين. إنها تنتزع داخل الدولة، وليست وظيفتها الدخول في فقه الدين. ليس مهماً إن كان الدين معترضا أو مضاداً وهو الأرجح. هذا شأنه. العلمانية انتزاع حق فردي وجماعي وسياسي، احتكرته المؤسسة الدينية، إما بنص ديني او اجتهاد فيه او تعسف منه، وتعيين الدولة مرجعاً لهذا الحق، فالعلمانية رأي في الدولة لا رأي في الدين (جان مالينيون).