عنادل الربيع العربي
ما قصة العندليب الذي كافأه سيده على صوته الشجي بأنثى من بنات فصيلته، تشاركه القفص وتؤنس وحدته، فأضرب بعد هذا العطاء عن الغناء المباح مرة واحدة وإلى الأبد.
الحقيقة أن سكوت العندليب المسجون، لم يكن إضرابا ولا تمردا، بل قناعة يكتنفها الرضاء والاكتفاء، ويفرزها توقف وانعدام الحاجة إلى مطلب عاطفي وبيولوجي انتفى وجوده بمجرد تحصيله.. فما كان يحسبه سيده طربا، لم يكن في حقيقة الأمر إلا احتجاجا على بقائه لوحده دون شريكة حياة يقتسم معها مأساته في الأسر.
هل أن علاقة المبدع بجمهوره من جهة، وبالسلطة من جهة ثانية، لم تكن في أصلها إلا مجرد سوء فهم، تحل معضلته عبر التنبه إلى موطن الخلل ومن ثم تلبية الحاجة فيحصل التطبيع المبني عندئذ، على سلام سلبي لا يعكر صفوه طرب ولا إبداع ولا من يحزنون.
يذكر التاريخ القديم والحديث بأن سلطات كثيرة قد تنبهت للأمر، وفهمت بأن بعض الغناء، ضرب من البكاء والاحتجاج والمطالب الشخصية البحتة، فكفكفت وابل الدموع الإبداعية بمناديل الاسترضاء والمكافأة والتعويض، واستطاعت بذلك أن تسكت أصواتا عديدة في أقفاصها التي تحولت بدورها إلى أعشاش آمنة وصامتة، تغلق أبوابها في وجه رياح التغيير، ومخاطر القطط المتربصة وطيور الحرية الكاسرة.
الخاسر الأكبر في هذه الحالة هو جمهور العندليب الذي كافأه سيده بشريكة في قفصه الإبداعي، و”جمهورية الثقافة ” التي لا يمكن لها أن تنهض دون إبداع يتخذ صيغة مطلبيّة احتجاجية في الشكل والمضمون وعلى المدى المباشر أو غير المباشر، خصوصا لدى المجتمعات التواقة إلى الكرامة والحرية، أي تلك التي مازالت تعوّل على مقولة ” المثقف العضوي” بمفهومها “الغرامشي” والراديكالي.
دعونا نعيد النظر قليلا في وصفنا لجمهور “العندليب المتزوج” ب” الخاسر الأكبر “ لمجرد أنه حرم من شجن الطائر المحروم، وهل ينبني التذوق الفني على ساديّة التلذذ بعذابات الآخرين؟ ثم من قال إن عبقرية الإبداع لا تتأتى إلا من أقفاص الحرمان وزنازين القمع؟
مهلا.. يبدو أن المقاربة بين ” العندليب الصامت” و ” المبدع المتخلي” في العالم العربي، تحتاج إلى تصحيحات وتصويبات، كي لا تؤخذ الأمور على عواهنها، مما يجعل هذه القراءة تنزلق نحو التسطيح والتعميم ووضع كل النماذج في سلة واحدة.
ضرورة هذا التنبه الذي أشرنا إليه من شأنها أن توضح لنا بأن ليس كل عندليب عندليبا في جودة الصوت، ومحدودية الغاية، واتساع القفص ورحابة صدر السيد ومدى ملكية هذا الأخير المطلقة أو النسبية للعندليب والقفص في أن معا، وفوق ذلك كله: قدرته وحريته في اقتناء الشريكة التي سوف تؤنس الطائر المبدع والمغبون في أسره.. ولماذا ينهي قضاء الحاجة الذاتية، المطالبة بتلبية حاجات العنادل الأخرى.. ثم من قال إن الفعل الإبداعي حالة غضب بالضرورة.. أليس الفكر والفن حالة فرح واحتفاء دائما بالحياة؟.
قد ننخدع بهذه المقاربة بين حالة المبدع وقصة العندليب في العالم العربي، ونتماهى مع فرضية أن كل الطيور يجب أن تعيش في أقفاص هدفها أن تطرب أصحاب هذه الأقفاص الذين يمدونها بالطعام ويحمونها من مخالب الحرية في الخارج، ويصبح مصيرها الأمثل أن تنجب فراخا خلف القضبان.. فراخ تمتلك أجنحة لا تطير وأصواتا لا تطرب إلا عند الحاجة البيولوجية والشخصية الضيقة.
نمضي ـ ومن حيث لا ندري ـ في التصديق بأن الإبداع هو حالة خلل مرضي في الذات البشرية، سببه الحرمان والتوق العبثي إلى حالة توازن بيولوجي حرم منها صاحبها، فانكفأ يغني ويهرج ويهذي فيطرب ويضحك ويبهج من حوله ومن حيث لا يدري أو يتقصّد.
إن هذه النظرة للإبداع والمبدعين، وربط حالاتهم باحتياجات معيشية محضة، من شأنها أن تعيدنا إلى تلك النظرة الإقطاعية المتعفنة إزاء الفنانين في العهد العثماني، والتي مازالت سلطات عربية كثيرة تقيّم من خلالها الأسماء الثقافية، فتطعمهم بقدر الحاجة تكفل عدم انقراضهم من جهة، وتضمن استمرارهم في تسلية أصحاب الأقفاص التي تكبر أو تصغر من بلد عربي إلى آخر.. أما الأخطر فهو أن أوساطا ثقافية قد تبنّت ـ ومن حيث لا تعلم ـ هذه الرؤية الدونية لبني وبنات فصيلتها، وراحت تروّج لها بدافع الكيدية أو جلد الذات الناتج عن الشعور بالإحباط وانعدام الثقة بغد أفضل.
ولكي لا نقع بدورنا في مثل هذا التظلم الذي يسلط على النخب الثقافية في البلاد العربية، ويكيل لها الاتهامات المعهودة بالانتهازية والسعي لتحقيق المطالب الشخصية باسم الجماهيرية والانحياز للفئات الفقيرة، فإن لسكوت ” عنادل الربيع العربي” أسبابا أخرى يجب التوقف عندها بالدراسة والتمحيص:
إن الحرية التي كانت ولا تزال على رأس المطالب قد تحققت نسبيا واستثنائيا في بلد مثل تونس، كما تشير التقارير الدولية، بل وصارت هذه الحريات (غنيمة الثورة الوحيدة) سبب تراجع مستوى المبدعين وانقضاض الناس من حولهم بعد أن تعثرت المطالب الاجتماعية أمام ملل الجماهير من هذه التخمة الكلامية التي تملأ البلاتوهات التلفزيونية ويتغذى منها طفيليون كثيرون ومستجدون في السياسة والإعلام.
الأمر الآخر الذي يفسر سر ظاهرة ” المثقف الصامت” في تونس أو في أي بلد آخر ومشابه، هو وقع توسيع هوامش حرية التعبير فيه، إذ يعتقد المثقف أن مهمته انتهت بمجرد الإيعاز له بقول ما يشاء دون عقاب.. وكأن الغاية القصوى لأي مبدع هو أن لا يناله العقاب، فكأنما المرء في حالة تأدية الخدمة العسكرية أثناء حالة السلم، والتي تخضع لمبدأ ” المكافأة فردية والعقوبة جماعية”.
مبدأ ” اطغم الفم تستح العين ” لم يعد مجديا ولا نافعا للطرفين: لا للمثقف ولا السلطان، فلا بضاعة الأول تسمن وتغني من جوع وسط الكلام المباح، ولا مكافأة الثاني مسموح بها وسط تكشير الرقابة عن أنيابها قائلة في ردع حاسم ” من أين لك هذا حتى تغطي مال هذا لهدا؟”.. مع التنبيه إلى أن هذه الرقابة تتألف من المثقفين أنفسهم.. وبدافع الغيرة والكيدية.. لا الرقابة القانونية والحرص على الأموال العامة.
المثقف ـ وعبر التاريخ ـ يعرف قيمة السلطة وسحرها وسطوتها أكثر من غيره، يسعى إليها حتى في لاوعيه، حتى وإن كان يبدو ظاهريا وأنه يحاربها، لذلك تراه يحتفي بها ويبرر وجودها ويدافع عن حدة مخالبها بلغة إقناع لا يمتلكها غيره من العامة والبسطاء.
جناحا المثقف في هذه المقاربة، يمكن لهما أن تكونا لعندليب يصدح محتجا داخل قفص سلطة، أو لنسر جارح يحلق عاليا ثم ينتهي به الأمر لآكل جيف وديدان أو لخفاش ينام نهاره مقلوبا على رأسه.. أو جناحين ل” أسخيروس” أسطوري تنتهي ملحمته بذوبان الشمع كلما اقترب من شمس الحقيقة الساطعة فيسقط عندئذ مرة واحدة وإلى الأبد.