“عندما يتحول النفس إلى هواء”: قصة واقعية عن الحياة والموت
يقول بيل غيتس: “يا له من كتاب رائع. وأستطيع القول إنه أحد أفضل القصص الواقعية التي قرأتها في الآونة الأخيرة“.
هذا كتاب صعب المطالعة وفي الوقت ذاته يجعل التوقف عن التفكير فيه أشد صعوبة. وهو مذكرات سيرة ذاتية لبول كالانيثي وهو طبيب جراحة عصبية تخرج من جامعة ستانفورد وأصيب بالمرحلة الرابعة من سرطان الرئة النقيلي في عمر فتي لم يتجاوز الخامسة والثلاثين سنة. وفي غضون الأشهر الـ22 المتبقية له مرّ بول عبر علاجات سرطان عديدة وفي النهاية واجه حقيقة الموت.
يتحدث القسم الأول من الكتاب عن قصة بول الطموح الذي إختار جامعة ستانفورد لدراسته الجامعية وحصل على شهادتي بكالوريوس وماجستير في الآداب وأتبعها بماجستير في الفلسفة من جامعة كامبردج قبل أن يتخرج في النهاية من كلية الطب في جامعة يال، ويعود إلى ستانفورد للتخصص بالجراحة العصبية. ولد بول لأبوين مهاجرين متحدرين من أصول هندية إختارا الإستقرار في أريزونا ووقع عبء تنشئة بول في المجمل على عاتق والدته وانتهى به المطاف بعلاقة حب وكره مع الطب. فالطب هو الذي أبعد والده في معظم الأماسي عن المنزل والذي كان بدوره طبيباً للأمراض القلبية.
وعلى غرار معظم الأمهات الهنديات إهتمت والدة بول كثيراً بتعليم أبنائها وعلى الأخص الآداب وخشيت من تعرضه للكحول والمخدرات في سنوات المراهقة. “دون أن تعلم أن أكثر إدمان مر به كان مجلد الشعر الرومانسي الذي قدمته له في الإسبوع المنصرم.”
يصف القسم الثاني طالباً في كلية الطب يحوّل نفسه إلى جراح أعصاب على مستوى العالم. ويتحدث عن سلسلة من الأوليات بالنسبة له: أول جثة وأول ولادة وأول حالة وفاة والمرة الأولى التي تحتم عليه إبلاغ أقرب أقاربه النبأ المفجع.
كان بول على وشك التخرّج عندما بدأت آلام الظهر والتي أدت لاحقاً إلى تشخيص سرطان الرئة القاتل. وبعدها كافح بول وزوجته لوسي، من دون الحصول على فكرة واضحة للزمن المتبقي له على قيد الحياة، لإتخاذ العديد من القرارات- هل يقرران الإنجاب أم أن ذلك سيجعل موته أشد صعوبة؟ وهل ينتقلان إلى ويسكونسن لبدء وظائف جديدة أم أن ذلك سيبعدهم كثيراً عن الأهل والأصدقاء عندما تحين ساعة رحيل بول؟
وما الذي يخططان له على المستوى البعيد وفي مواجهة الموت ماذا يعني المستوى البعيد؟ شهر أم سنة أم خمس سنوات؟
بدأ بول بتلقي العلاج من السرطان وتحسن قليلاً واستثمر كل لحظة لإستعادة قواه والعودة إلى غرفة العمليات لإستكمال تخصصه.
ولكن السرطان يعاود الظهور ويبدأ بتلقي العلاج الكيمائي في هذه المرة. يصبح ضعيفاً مرة أخرى ويدرك في تلك اللحظة أن أكثر ما يهمه الآن أن يموت بشكل لائق.
يُرزق بول ولوسي بطفلة ويقرر بول مضاعفة جهوده في شغفه وطموحه المتجاهل لأمد طويل- الكتابة. ويهدي هذا الكتاب لإبنتهما كادي وهو نتاج سعي بول الحثيث للكتابة في أيامه الأخيرة بالرغم “من تمزق الجلد الرقيق على رؤوس أصابعه بفعل الطرق على مفاتيح الكتابة كثيراً”.
هذا كتاب ثقيل ويدفعك للبكاء أكثر من مرة. وينتهي بملاحظة عن الأزمنة والزمن والتناهي ورسالة لإبنتهم:
“أصبح تصريف الفعل مضطرباً أيضاً. أيهما أصح: “أنا جراح أعصاب” أم “كنت جراح أعصاب” أم “كنت جراح أعصاب سابقاً وسوف أصبح كذلك لاحقاً؟”.
قال غراهام غرين ذات مرة “إننا نعيش الحياة في العشرين سنة الأولى وما يتبقى يكون مجرد تأمل. إذاً ما هو الزمن الذي أعيشه الآن؟ هل تجاوزت الزمن الحاضر ودخلت في الماضي التام؟ يبدو زمن المستقبل خاوياً وعلى ألسنة الآخرين متنافراً”.
إحتفلت قبل أشهر عدة بالذكرى الخامسة عشرة للقائنا الجامعي في ستانفورد مع أصدقائي ووقفت في الساحة احتسي الشراب وشمس إرجوانية تتلاشى في الأفق عندما صدح صديق قديم بوعود المحتفلين “نراكم في الذكرى الخامسة والعشرين”- وبدا من غير اللائق أن أجيبه: “حسناً … على الأغلب لن تروني.”
يستسلم الجميع للنهاية وأعتقد أنني لست الوحيد الذي يصل إلى هذه المرحلة من الماضي التام. ومعظم الطموحات إما تُنجز وإما تُترك وفي كلا الحالتين تنتمي إلى الماضي. أما المستقبل، وبدل أن يكون سلماً نحو أهداف الحياة، فينبسط إلى حاضر دائم. فالمال والجاه وكافة الزخارف التي وصفها واعظ الكهنوت لا تملك الكثير من الأهمية: مجرد جري وراء الريح لا غير.
وثمة أمر لا يمكن أن يُسرق من مستقبل التناهي: إبنتنا كادي.
أتمنى لو أعيش بما يكفي لتتذكرني ولو قليلاً. وللكلمات ديمومة لا أمتلكها. فكرت بأن أترك لها مجموعة من الرسائل – ولكن عما ستتحدث؟ لا أعرف ما ستكون عليه هذه الفتاة عندما تبلغ الخامسة عشرة من العمر ولا أعلم إن كانت ستتقبل أسماء الدلع التي أطلقناها عليها. وربما أقول شيئاً لهذه الرضيعة التي هي كلها “مستقبل” يتقاطع قليلاً مع حياتي التي أوشكت على الإنقضاء.
والرسالة بسيطة: “عندما تصل إلى واحدة من تلك اللحظات التي يتعين عليك فيها التحدث عن نفسك، قدّم حاشية لما كنت عليه وفعلته وما عنيته للعالم وأدعو أن لا تنتقص القول بأنك ملئت أيام رجل محتضر بسعادة متخمة ولذة لم أعرفها في سنواتي السابقة ولذة لا تتعطش إلا لمزيد من الراحة والرضا.”
ومما يجعل هذا الكتاب مطالعة عسيرة الإدراك بأن بول قضى معظم حياته على غرار معظم الطامحين. نحى بول طموحه الكتابي جانباً وتكبد مصاعب دراسة الطب والتخصص بالجراحة العصبية. وفي الوقت الذي أوشك فيه على إستكمال تخصصه والإستمتاع بالحياة خارج غرفة العمليات توجب عليه تعلّم كيفية الموت.
إقرأ هذا الكتاب لإنه يجعلك ممتناً لما تنعم به ويلهمك لإستثمار كل ما فيه.
ويقول بيل غيتس عن هذا الكتاب: “تمتلك الحياة قيمة متساوية ولكن بعض الموت يبدو وحشياً“.
عندما شُخص بول كالينيثي بسرطان قاتل في عام 2013 كان على وشك تقديم مساهمات كبيرة للعالم عبر عقله ويديه. كان طبيباً موهوباً ورئيساً للمقيمين في الجراحة العصبية في جامعة ستانفورد قبيل أشهر قليلة من إنهاء أصعب التخصصات السريرية في مجاله. وكان عالماً اريباً، وفازت أبحاثه ما بعد الدكتوراه حول العلاج الجيني بأعلى جائزة بحثية في تخصصه.
وإذا لم يكن ذلك كافياً كان كاتباً عظيماً. وقبل دراسته للطب حاز على شهادتين في الأدب الإنجليزي من جامعة ستانفورد وفكر ملياً في إمتهان الكتابة.
يا له من موهبة ويا له من فقدان.
سمعت بحكاية كالينيثي لأنه حكاها بنفسه في الكتاب الذي صدر بعيد وفاته بعنوان “عندما يتحول النفس إلى هواء”. ويا له من كتاب رائع. وأستطيع القول إنه أحد أفضل القصص الواقعية التي قرأتها في الآونة الأخيرة.
وبفضل هذا الكتاب يقترب القارئ من التعرّف على كالينيثي عن كثب ويحبه كثيراً. ويأخذك في رحلته كطبيب ومن ثم كمريض ودوره كزوج والذي تعرض لشدائد جمة بسبب مصاعب التخصص السريري له ولزوجته الطبيبة أيضاً.
واشتد استغراقي العاطفي على الأخص عندما قرر كالينيثي وزوجته لوسي الإنجاب بالرغم من (وربما بسبب) تشخيص كالينيثي بالسرطان.
حضر كالينيثي أثناء الولادة ولكنه كان شديد الضعف والوهن بسبب العلاج الكيمائي لدرجة لم يقوَ فيها على ضم مولودته إلى صدره. وبعد ثمانية أشهر فارق الحياة على بعد مئات الياردات من مكان دخول إبنته العالم.
لست من هواة النحيب حول الموت والإحتضار ولكن هذا الكتاب استأسر بإعجابي وبدموعي.
ولا أعلم كيف يتمكن أي قارئ يطالع وداعية لوسي من دون أن يتأثر. تقول لوسي: “أزور قبره كثيراً وأحمل معي شراب ماديرا التي قضينا فيها شهر العسل. وفي كل مرة أسكب قطرات منه على العشب من أجل بول…وأتحسس العشب كما لو كان شعر بول. تزور كادي قبر والدها قبل قيلولتها مستلقية على دثار…وتتلمس الأزاهير التي وضعناها عليه.”
ولكن لا تدع الأسى يخيم عليك. ويجب أن أشير إلى الأمر الآخر الذي شدّني إلى هذا الكتاب.
لقد استمتعت كثيراً بقصص كالينيثي عن تدريبه الجراحي ولطالما أعجبت بالأطباء. إذ يتعين عليهم إتخاذ قرارات صعبة وتشمل جلّ أفعالهم مضامين الموت والحياة. ويصف كالينيثي هذه التحديات الكبرى من دون الشعور بعقدة التأله. وتتحدث إحدى القصص والتي أعتقد أنها ستنطبع في ذهن كل أب يطالع هذا الكتاب عن مريض شاب يعاني من ورم في الدماغ.
يقول: “يتحدد الفرق بين التراجيديا والإنتصار بمليمتر أو إثنين. في أحد الأيام عاد ماثيو الذي تخرج من المستشفى قبل بضع سنوات إلينا ثانية. لقد تضرر الوطاء لديه قليلاً خلال العملية التي خضع لها لإزالة الورم وأصبح الطفل الجذاب ذو السنوات الثمانية اليوم عملاقاً بعمر إثني عشرة سنة.”
وشدّني أسلوب كالينيثي الرائع. وأقدر جميع الأطباء ولكن تقديري للكتاب منهم أعظم وأعمق. وأشعر بالصدمة عندما أعثر على أحد منهم وينضم كالينيثي إلى أخوية من الكتاب الأطباء الرائعين من أمثال ابراهام فيرجيس(الذي كتب مقدمة كتاب بول) وسيدهارثا موكهيريجي واتول جواندي. وربما يتعين عليّ إستشارة جراح أعصاب للإستعلام عن إرتباط هذه المواهب الفذة في مكان ما من الدماغ.
أعتقد أنني سأقرأ الكتاب أكثر من مرة لأنه يمتلك طبقات من المعاني والكثير من التراصفات المثيرة – الموت والحياة والمريض والطبيب والوالد والولد والعمل والعائلة والإيمان والمنطق- وأعتقد أنني سأقتنص المزيد من التبصرات في المرة القادمة.
لا أعلم كيف تمكن كالينيثي من إمتلاك القوة الجسدية لكتابة هذا الكتاب في الوقت الذي هده فيه المرض والعلاج الكيمائي. ولكنني سعيد لتمكنه من فعل ذلك.
لقد قضى جلّ حياته القصيرة في البحث عن معنى بطريقة أو بأخرى عبر الكتب والكتابة والطب والجراحة والعلوم. وأنا ممتن لقراءة هذا الكتاب الذي أطلعني على جزء من تلك الرحلة وكم تمنيت لو أنها لم تكن قصيرة.
الميادين نت