
بعد غياب دامَ طوال مدة الحرب، عادت البضائع الأجنبية إلى الأسواق السورية، مع فتح باب الاستيراد وغضّ الطرف عن التهريب الواسع، لكن الطلب عليها ما لبث أن ضعف في ظلّ أزمة السيولة.
منذ سقوط النظام السابق، غزت البضائع الأجنبية السوق السورية، وذلك بعدما فُتح باب الاستيراد (الشرعي وغير الشرعي) على مصراعيه، وسُمح بتداول الدولار في عمليات البيع والشراء. وقد شهدت الأشهر الأولى، إقبالاً كبيراً من جانب السوريين على ابتياع هذه السلع التي اختفت على مدى أكثر من 14 عاماً، لكن الإقبال لم يدم طويلاً، إذ سرعان ما أثّرت أزمة السيولة وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، في عمليات الشراء تلك.
على هوى السوق
إثر قرار الحكومة فتحَ باب الاستيراد من دون أيّ ضوابط، امتلأت المحال التجارية المعروفة في دمشق ودكاكين الأحياء الشعبية وحتى البسطات، بشتى أنواع السلع الأجنبية المستوردة: من المياه، البسكويت، العصائر، الحليب وغيرها من المعلبات الغذائية، وحتى المكسرات، الفواكه، والخضار أيضاً. كما خصّصت المتاجر الكبرى والمولات المعروفة، مساحات كبيرة لعرض المنتجات المستوردة، فيما أطلقت أخرى مهرجانات بيع متخصّصة – على سبيل المثال – بالمستلزمات المدرسية، أو بالأحذية الرياضية.
ويؤكد عيسى، الذي يعمل محاسباً في سلسلة متاجر معروفة، أن «معظم سلعنا أصبحت مستوردة، ولا سيما الماركات العالمية المشهورة لسلع كالشوكولا والمشروبات الغازية ومستحضرات التجميل وحتى الأحذية والألبسة، فيما هناك بعض السلع المصنّعة في دول الجوار لماركات معروفة أيضاً وبأسعار أقلّ»، مشيراً إلى أن «الإقبال على المنتجات الأجنبية تراجع مقارنة بالأشهر الأولى بعد سقوط النظام السابق».
وفي منطقة البرامكة في دمشق، انقلب حال «سوق التهريب» رأساً على عقب، حيث غاب ازدحام الباعة والمتسوّقين على السواء، وأغلقت بعض المحالّ أبوابها بسبب تراجع المبيعات. ويفسّر أبو مهند، وهو أحد الباعة القدماء، تراجع عمل السوق، بالقول: «أدى فتح باب الاستيراد إلى تراجع خصوصية السوق، الذي كان يُعدّ المصدر الوحيد للسلع الأجنبية، التي كانت تأتي تهريباً عن طريق لبنان أو الأردن والعراق. لكن حالياً أصبحت هذه السلع متوافرة في كل مكان». ويضيف أن «الشيء الإيجابي الوحيد، هو تراجع الأسعار بنسبة تصل إلى حوالى 40% لبعض المواد الأجنبية كالشوكولا، البسكويت، الحليب، العصائر، الأدوات المنزلية، الكهربائيات، المنظّفات، والدخان. ومع ذلك، فهي لا تزال خارج قدرة كثيرين».
من كل حدب وصوب
رغم توافر كلّ شيء وبأسعار أقلّ من السابق، فإن حركة البيع تراجعت، في موازاة ارتفاع أعباء المعيشة. ويعتقد أبو محمد، وهو صاحب محلّ تجاري معروف في منطقة الحلبوني في دمشق، بأن السوق «امتصّت فورة المستوردات الأجنبية التي دخلت من كّل حدب وصوب، بلا رقابة، وانتشرت على البسطات، لا بل إن بعضها مجهول المصدر ومتدني الجودة». ويؤكد أن المستهلك والمنتج والتاجر تجاوزوا هذه المشكلة حالياً وتكيّفوا معها مرغمين.
لكن سياسة الحكومة الحالية امتدت أيضاً إلى التوسّع غير المدروس في استيراد المنتجات الزراعية، وهو ما عبّر عنه زيد العلي، أحد تجّار المنتجات الزراعية، من أنه «يمثّل تهديداً مباشراً لدخل المزارعين السوريين، ويجعل القطاع الزراعي السوري رهينة لتقلبات الأسواق العالمية، وقد يصل في نهاية الأمر إلى انهيار هذا القطاع، والمثال الأقرب هو الموز المستورد الذي أجهض تجربة زراعة الموز المحلّي». ويضيف: «كل المنتجات المستوردة شهدت هبوطاً في الأسعار، فمثلاً الأناناس الأجنبي تراجع بنسبة تجاوزت 60%، ومثله المانغو، الكيوي، الجوز، التمور وغيرها».
ونتيجة للغزو الذي عاشته الأسواق طوال الأشهر الماضية، فإن الكثير من المنشآت والورش اضطرت إلى تخفيض إنتاجها وأحياناً التوقف عن الإنتاج، ولا سيما في ظلّ استمرار ارتفاع تكاليف الإنتاج، وهو ما يشكّل خسارة اقتصادية واجتماعية كبيرة ومؤلمة في ظلّ الظروف الراهنة. وفي هذا السياق، يشدّد الباحث الاقتصادي، أيهم أسد، على ضرورة وضع ضوابط تجارية لعمليات تحرير التجارة الخارجية، كتعديل الرسوم الجمركية، تحديد حصص الاستيراد، ودعم الصناعة المحلية للمنتجات المشابهة لتلك المستوردة، كأولوية لحماية الاقتصاد السوري.
ويحذر، في حديثه إلى «الأخبار»، من أن الاستمرار في هذه السياسات من شأنه أن يؤدي إلى استنزاف القطع الأجنبي بدلاً من استثماره في الإنتاج وإعادة بناء ما دمّرته الحرب. كما إن إغراق السوق السورية بسلع رخيصة، غالبيتها استهلاكية، يشكّل ضغطاً على الصناعة الوطنية، التي إنْ لم تتكيّف مع هذا التحرير، فإن مصيرها سيكون الانهيار، وهو ما يضرّ بالاقتصاد الوطني، خاصة أن التبادل التجاري الآن بين سوريا ودول الجوار يستند بشكل رئيسي إلى العلاقات السياسية، وبالتالي فإن أيّ هزّة سياسية ستكون لها تداعيات سلبية على الاقتصاد السوري.
من جانبه، يعترف رئيس «جمعية حماية المستهلك» في دمشق وريفها، عبد العزيز المعقالي، بأن دخول الكثير من المنتجات المستوردة إلى البلاد بعد سقوط النظام السابق، أدّى إلى حصول فوضى في السوق، ترافقت مع انخفاض أسعار بعض المواد جرّاء حصول تنافس بين التجار، وضعف القدرة الشرائية للمواطن، لافتاً إلى أن الجمعية تتابع رصد السلع غير المطابقة للمواصفات أو المنتهية الصلاحية وتبلّغ الجهات المسؤولة عنها.
صحيفة الأخبار اللبنانية