غسان زقطان: الكتابة في زمن الخسارة
ينتمي غسان زقطان (1954) إلى جيل «تحدث عن الخسارة بآلات فردية وأصوات حقيقية». ولد في بلدة بيت جالا قضاء بيت لحم عام 1954 لعائلة لجأت إليها من قرية زكريا في الخليل بعد النكبة، أمضى طفولته متنقلاً بين المخيمات الفلسطينية. كان طفلاً عندما اكتشف الشعر في الرف الثالث الذي كان يحوي أعداد «مجلة شعر» في مكتبة أبيه الشاعر الكلاسيكي خليل زقطان. نشر نصه الشعري الأول بمساعدة الشاعر الفلسطيني محمد القيسي، لـ «يغلبه الشعر» بعدما درس التربية الرياضية. انتقل إلى بيروت في نهاية السبعينيات، وظل فيها إلى أن رحل إبان الحصار، لينتقل إلى قبرص فعدن فدمشق حيث عمل في القسم الثقافي لمجلة «الحرية» إلى جوار زكريا محمد وغالب هلسا وليانة بدر وراسم المدهون. لم يتفق مع «اتفاقية أوسلو» (1993) ولكنها كانت بمثابة «باب ضيق» سمحت له العودة إلى الوطن المحتل. هناك، كتب «استدراج الجبل» (1999) و«سيرة بالفحم» (2003) مواصلاً تجربة شعرية وسردية خارجة عن الغنائية والشعارات المباشرة التي أسرت المشهد الأدبي الفلسطيني لفترة طويلة.
وعلى غرار تمرد أقرانه من «جيل الـ 27» الإسباني الذي هبط بالشعر إلى الشوارع بدلاً من «الطيران فوقهم وفوق الحياة»، وفق تعبيره، كتب مجموعاته «رايات» (1984)، و«بطولة الأشياء» (1988)، و«ليس من أجلي» (1992). هكذا هبط بقصيدة التفعيلة إلى الحياة باحثاً في مناطقها الجديدة ومشغولاً بتفاصيلها العابرة، فترك نصاً متعدد المصادر بفضل المنفى «التجربة الوحيدة المتوفرة والمباشرة لنا نحن الذين ولدنا بعد النكبة لأمهات وآباء منفيين». في العقد الأخير، بدا كأنه يقطف ثمار تجربة خمسة عقود من الكتابة والترحال، تُوجت بنيله العديد من الجوائز الأدبية التي سلطت عليه الأضواء، وفتحت باب الترجمة لأعماله الشعرية والروائية إلى لغات عدّة. «أفكر بإجازة طويلة» هكذا أنهى الشاعر الفلسطيني الحوار الذي حاولنا من خلاله نبش تجربته الأدبية واشتباكه مع نصوص الشعر والسرد، من دون التطرق إلى المواضيع السياسية المتعلقة بفلسطين وحال بلادنا العربية الآن، التي قد تتطلب حواراً آخر.
■ خلال مسيرتك الأدبية ابتعدت عن الغنائية والشعارات المباشرة التي سيطرت لفترة طويلة على المشهد الأدبي الفلسطيني، هل كان هذا وعياً مبكراً بضرورة عدم إثقال النص الأدبي بعناصر قد لا تلعب لصالح القيمة الفنية للنص؟
هذا صحيح، ولكن للدقة، لا نتحدث هنا عن تجارب فردية معزولة بل عن اتجاه شكَّل دائماً جزءاً من المشهد الأدبي الفلسطيني والعربي، حتى في فترة الخمسينيات والستينيات التي شهدت «التسميات الكبرى» على نمط «شعراء النكبة» و«شعراء المقاومة» أو النسخة اللبنانية في ما بعد «شعراء الجنوب». كان هذا الاتجاه يقدم اقتراحاته الفنية ضمن رؤية أوسع، ولغة مختلفة عن السائد وتدافع الأكتاف وإغراق الشعر بقاموس السياسي وروايته، وصعود القومية واليسار، أتحدث عن تجارب مثل توفيق صايغ، وجبرا إبراهيم جبرا التي ظهرت بقوة وتركت تأثيراً في مناطق الجدل آنذاك في بيروت وبغداد. يمكن هنا أن أضيف فواز عيد في عمليه «أعناق الجياد النافرة» و«في شمسي دوار» في النصف الثاني من ستينيات دمشق.
ينطبق هذا عليَّ وعلى الجيل الذي أطلق عليه اسم «جيل الثمانينات» الذي أجده امتداداً لتلك التجارب، وهو جيل يضم العديد من الأسماء العربية، لعل بلورته كجيل مختلف تشكلت في بيروت نهاية السبعينيات. عملية الإبعاد التي واجهها هذا الجيل سمحت له بالبحث في مناطق جديدة.
بدأنا الكتابة في مرحلة الخسارة، الحرب الأهلية اللبنانية بتعقيداتها التي لا تزال قائمة إلى الآن، حصار بيروت، الحرب العراقية الإيرانية، صعوداً في الثمانينات وتداعياتها. نصوصنا الأولى كتبت في هذا السياق، كانت ممتلئة إلى حوافها بالتمرد، تمرد شمل الأشكال واللغة والإيقاع وقداسة «الرواد». بدأنا قبل الرواد وزحزحنا تاريخ التجديد الحديث إلى ما قبل الرواد والسؤال المتداول، قبل قصيدة «الكوليرا» لنازك الملائكة أو السياب، وأبعد من جدل «الآداب» و«شعر»، ذهبنا في مسالك أوصلت بعضنا إلى سعيد عقل ومصطفى وهبي التل وأحمد شوقي، كان ذلك خروجاً عن الطاعة وعمليات التأريخ والتوثيق الثقيلة.
كان الأمر أقرب إلى مختبر جدل شامي بامتياز. أتحدث عن الجغرافيا، عن طريق دمشق – بيروت، تنظير أقل وكتابة واسعة ومتعددة، تجمع بين نزيه أبوعفش ورياض الصالح حسين وسليم بركات وعباس بيضون وبسام حجار، أمجد ناصر وميسون صقر وزاهر الغافري وسيف الرحبي ووليد الخزندار، خالد درويش وزكريا محمد وهاشم شفيق وعواد ناصر وقاسم حداد وحلمي سالم وزهير أبو شايب. يمكن في هذا السياق أيضا قراءة يوسف بزي وعناية جابر، طبعاً هناك أسماء كثيرة وهامة يمكن إدراجها هنا ولا تحضرني في هذه اللحظة.
في منطقة ما أجد أسباباً للمقارنة مع «جيل الـ 27» في إسبانيا بتعددية تجاربه واختلافاته وتمرده على النمطية والرومانسية، الجيل الذي هبط بالشعر إلى الشوارع وبين الناس بدل «الطيران فوقهم وفوق الحياة». البلاغة الفائضة والإيقاعات العالية والهتافات بقيت هناك خلفنا عالقة ومحبوسة في عقد السبعينيات. نحن تحدثنا عن الخسارة بآلات فردية وأصوات حقيقية، وبينما كانوا يواصلون النفخ في النحاسيات في السبعينيات خلفنا، كنا نتحدث عن الخسارة، خسارة الفرد وعزلته وغاياته الصغيرة، وعن الناس والعاديات البسيطة والهوامش، الهزيمة كانت من مصادرنا أيضاً. ببساطة أشد كنا نمتلك شجاعة رثاء الثورة ومفارقة الأحلام والمسيرات الحاشدة والاكتفاء بالشوارع الجانبية وعد النوافذ المضاءة في البيوت المهجورة.
لم نكن جيلاً مهزوماً بقدر ما كنا قادرين على رؤية الهزيمة وتبينها وتفكيكها. كنا جزءاً من المكان وحاولنا جميعاً بوسائل مختلفة أن نعيد الشعر إلى الزمن أيضاً، وكان بين أيدينا حقبة من الشعر راكمتها تجارب أساسية في المشهد الثقافي العربي كانت بيروت محطتها الرئيسية.
هذا لا يعني أن «البلاغة» بسطحيتها ومخزونها السلفي قد انحسرت عن المشهد، ودعني استخدم تعبير «الحيل البلاغية» التي ما زالت تحيط بالمشهد الأدبي الفلسطيني وتحاصره تحت مسميات وأقنعة جديدة تواصل التغذي من الشعار السياسي، أو من رواية السياسيين، أو «الدعاة الجدد» والخطاب السلفي الذي استعاد حيويته وحضوره مع صعود الإسلام السياسي وقاموسه. لقد تحكمت مخيلة السياسي الضيقة، رغم افتقارها للموهبة وللواقعية، لعقود طويلة بالنص الأدبي المكتوب في فلسطين أو عنها، وهو أمر قائم إلى الآن، وأظنه سيتواصل.
■ «سيرة بالفحم» كانت علامة تحوّل في نصوصك، هل القصيدة تغيّرت أم غسان نفسه؟
«سيرة بالفحم» هي المجموعة الثانية التي أصدرتها بعد عودتي إلى رام الله، معظم نصوص المجموعة كتبت في فلسطين بعد العودة الإشكالية التي وفرتها اتفاقيات أوسلو، وهي امتداد لـ «استدراج الجبل» عنوان المجموعة التي سبقت «سيرة بالفحم»، والتي كانت أقرب إلى افتقاد المنفى بعد صدمة «الوطن»، رغم أنها، أي المجموعة، تضمنت نصوصاً تحاول إعادة ترتيب العلاقة مع المكان بمكوناته وحذره. «سيرة بالفحم» كانت اعترافاً طويلاً بقسوة الوطن وانكشافه بعد انحسار الحنين الذي غلَّفه. تبدلت الوقفة تماماً ولم يعد ممكناً مواصلة التحايل على الأشياء.
لم أكن لأكتب نصاً مثل «مومس المخيم» أو «خيول سوداء» أو «عدو يهبط التلال» أو «شاب من الجهير يتندم» أو «ضجر القراصنة» قبل ذلك. كان علي أن أتخفف من الحنين، وأن أسلك ذلك الجسر الخارج عن النشيد، الجسر الذي يمنح المنفى حقوقاً خارج الاتفاق البلاغي المتداول، كأن يكون طيباً وملائماً، الذي يمنح القامة البشرية والكائنات المحيطة التي تشكل الحياة حق أن تتحدث بحرية، كأن ننظف الأشياء من قداستها ونحتفي بالإنسان الذي يصنع الأشياء.
هذا ما حدث في «سيرة بالفحم» وقبله «استدراج الجبل» وقبلهما الكتاب السردي «وصف الماضي» الذي صدرت طبعته الأولى في عمان 1995. ببساطة تبادلنا الأدوار، المكان وأنا، ولم يعد ممكناً إعادة كتابة النصوص التي أصبحت خارج الحدث واكتسبت حكمتها من قدمها.
■ الاعتماد على الرمز وعدم الوضوح، جعلت منك شاعراً غير شعبي، وحرمك من الجماهير، على عكس تجربة محمود درويش مثلاً، هل هذا مرتبط بذائقة الجماهير العربية ووعيها الفني والأدبي؟
لست كاتباً شعبياً، ولا أسعى لذلك، ثمة شروط قاسية تأتي غالباً من خارج الكتابة ينبغي توافرها لتتمتع بـ «الشعبية». الأمر أكثر تعقيداً من بناء علاقة حب مع الجمهور. هذا يختلف تماماً عن الثقة، عليك أن تتماهى بشكل كلي مع ذائقة الجمهور ووعيه ورغباته، وأن تدخل في مختبر توافقي يختلف عن مختبر الأدب، أن تكون في منطقة مأهولة وأن تعتمد على قاموس مستنفد وأدوات جرى استخدامها، الأمر بحاجة إلى مهارات وموهبة وقدرة على التلاعب والعرض.
التلقي موضوع مركب، كما تعرف، ولكن محمود درويش ليس نموذجاً للمقارنة، درويش ليس شاعراً شعبياً، هو نموذج شعبي، وهو في منطقة شعرية محددة يكتسب الشعبية، لقد تم حبسه ضمن صورة نمطية كان الجمهور بحاجة ماسة لها، رغم أنه غادر تلك الصورة وقدم مشروعاً واسعاً ومتعدداً، إلا أن «جمهوره» أصر على الاحتفاظ بصوره القديمة وقمصانه القديمة وأقلامه ونظاراته التي توقف عن استخدامها، وواصل التحديق في الإطار، بينما كان الشاعر يذهب أبعد في التجريب والمغامرة. «شعبية» محمود تأتي من مستويات قراءته وليس من كتابته.
■ الغربة والضياع ثيمتان متأصلتان في معظم أعمالك الشعرية. في قصيدة «الغريب في أيقونته»، تقول «أنا الذي بالغت في كل شيء/ أذهب وحيداً كما ولدتني أمي/ لأجلس في أيقونتي»، هل الشعر هو تلك الأيقونة، ذاك الفرار من تلك الغربة؟
أظن أن المنفى بقوة حضوره وانفتاحه على المشهد، ساهم في تنويع مصادر النص. كان المنفى هو التجربة الوحيدة المتوفرة والمباشرة لنا نحن الذين ولدنا بعد النكبة لأمهات وآباء منفيين، حتى فكرة الحنين لم تكن لنا، كانت قادمة من ذكرياتهم هم بعد تنظيفها المتواصل من الألم. كانت كياناً ينمو إلى جانبهم في مخيمات اللجوء ومطارح الشتات التي لم يختاروها، ولكنهم واصلوا العيش فيها بقوة الحنين التي تأتيهم من الأمكنة الأولى التي وصلوا منها. الأمكنة التي واصلوا رعايتها وتنقيتها حتى تحولت إلى ما يشبه «الاسكندرية التي تفقدها» أو الى أرض ميعاد شخصية.
ما حصلنا عليه كان ذكرياتهم، نحن أبناء منفى، منفانا لم يكن نموذجياً. كان حقيقياً وجماعياً، حقيقياً حتى ذلك الحد الذي يشبه الوطن، وجماعياً بحيث يكتسب هويته الخاصة. نحن لا نشبه آباءنا، لا نحمل ندمهم التراجيدي الذي قيدهم ومنعهم من فهم المنفى. لا نحمل فكرة «الخطيئة» التي حملوها في طيات أرواحهم وهم يغادرون بيوتهم.
لقد أورثونا منفى ولكننا قمنا بزراعته وتأثيثه وتحويله إلى مصدر للمعرفة، من دون أن نتخلى عن فكرة العودة، هنا تكمن قوة جيلنا. هذا ما منحنا أيضاً، قوة الحديث عن الخسارة وتفكيكها بالروح نفسها التي فككنا فيها «البطل» الذي وضعوه في إطار على الحائط.
■ ظلّت الذاكرة حاضرة وأحياناً مسيطرة على أعمالك الشعرية حتى المجموعة الأخيرة «مشاة ينادون إخوتهم»، هل هي فردوس غسان المفقود، أم أنها تعويض عن الخسارات؟
نحن نواصل كتابة سيرتنا الذاتية، تحريك الذكريات وإعادة ترتيبها على ضوء الراهن، هذه تقريباً مهنتنا وقلقنا أيضاً.
■ كتبتَ الرواية بلغة الشعر، متجاهلاً أحياناً شروطها وحبكتها وخيطها الدرامي، هل تعمّدت ذلك؟ أم هي سطوة الشعر التي تجعل من الرواية بمثابة نص سردي مفتوح؟
دعني أقول أولاً أنني استخدم مواد بيتية في كتابتي، المواد المتوفرة في المحيط والقابلة للتشكل وتلك التي أعثر عليها بالمصادفة، وهذا يشمل الشخصيات والمكان وإطار الحدث وعناصره، ذلك هو المختبر وهناك يحدث البحث في شؤون العاديات والهوامش والظلال، في تراكم الواقع وتحلله البطيء إلى معرفة. الواقع بعد أن يتخلص من الأحلام الزائدة والإضافات التي سببها الموت. بالنسبة إليّ يصعب أو أرى أنه ليس من المناسب زج الأحلام في النص، الأحلام وسيلة سطحية لتحريك المخيلة، المخيلة الحقيقية. هل هناك مخيلة حقيقية، تكمن في مطويات المكان وفي مناطق التماس بين المكان ومخلوقاته، وتحديداً في إيجاد تلك العلاقات المختفية التي تسببها حركة الكائنات وأفكارها في محيطها، خروج تلك العلاقات من سكونيتها المتداولة وتحريرها من المسلمات التي جرى حبسها فيها؟
أنا أفكر دائماً في تحريك الأشياء، هل أقوم بالدفاع عن كتابتي أو تبريرها، ربما، ولكن هناك بلا شك مسالك مختلفة للنص وغايات مختلفة أيضاً. ثمة نصوص قادمة من بنية الأدب، وتحديداً من مختبر الأدب. أحاول أن أقتبس ملاحظة للناقد إبراهيم أبو هشهش حول كتابي السردي الأخير «حيث اختفى الطائر» وهناك نصوص تتغذى من خارج هذه البنية وتسعى نحو إبهار القارئ واستدراجه، رشوته، ومطاردته عبر التشويق الحكائي وتصعيد الحبكة، ولكنها تبقى خارج البنية الأدبية بمعناها الإبداعي والمعرفي.
هنا أعود الى إشارتك في السؤال السابق حول شعبية النص، وأقتبس أيضاً من حوار طويل وممتع مع الشاعرة عناية جابر، أجده ملائماً لسؤالك «لم أفكر بـ«الحبكة» ولم يكن لدي تخطيط لعمل روائي بمواصفات تامة. ما توفر لدي كان رغبة عميقة في الكتابة، وهو ما فعلته، أظن أن التفكير في الحبكة والتخطيط لها يحتاج إلى مهارة مختلفة وعلاقة مختلفة أيضاً مع النص، هو إحلال المتلقي داخل النص. شيء من المجاملة المبالغ بها مع قارئ مفترض، الحبكة ضرورية للعمل الروائي لخلق التشويق وإقناع المتلقي بالانتظار مدة أطول.
أتحدث عن غياب الثقة الذي يكتنف الحياة التي نعيشها، هنا كل الحكايات تبدأ من السيرة، سيرة الناس والآخرين التي تتحول إلى سيرة شخصية، من خوفهم على كل شيء ومن كل شيء، من الحياة ومن الموت، أين يذهب الناس في الروايات، أين تذهب الطرق والشجر والمنازل، أين تذهب حمولة العينين والروائح والأصوات والمخاوف؟ لا يجوز اختصار كل هذه الموجودات بشخص وأحداث، لا ينبغي تجريد الشخص من ممتلكاته وسوقه مخفوراً داخل حبكة. كنت، وما زلت، معنياً في كتابتي بتحريك الأشخاص مع ممتلكاتهم وذاكرتهم التي تشكلهم، من دون أن تتسرب تلك الموجودات وتتركهم عراة أمام حادثة أو تطور ما. هل يغني ذلك عن الحكاية، عن الحبكة؟ لا أعرف، لكنها ستكون حكاية أخرى تماماً لو أخذتهم جميعاً نحو التشويق، وتحويلهم إلى وسائل متعة. في نصوصي وكتابتي، أحاول دائماً أن أجعل الأشياء أقرب إلى نفسها لا أقرب إلى المتلقي.
■ في السنوات الأخيرة، هناك احتفاء واضح بنتاجك الأدبي، حصلت على العديد من الجوائز، ودور نشر مرموقة ترجمت أعمالك الشعرية والروائية. ماذا يعني لك أن تترجم؟ وهل الترجمة معيار نجاح؟ وهل ترى أن مسيرتك الأدبية أعطت ثمارها أخيراً؟
الترجمات منحتني زاوية جديدة للدخول في مشهد الكتابة، أن تجد نفسك أمام ذائقة مختلفة تماماً، وثقافة أخرى تمتلك إيقاعها ووسائل قياس لم تفكر بها أثناء الكتابة، ما الذي بقي من ظلالك في اللغة الجديدة، المكان والصورة والضوء والظل والروائح؟ ما الذي بقي من الشعر عندما تنتزع منه ذاكرة اللغة ومرجعياتها وإيقاعاتها وزينتها وتأخذه، بلا زينة، إلى مرجعيات جديدة؟ أظن أن الترجمة بحد ذاتها لا تشكل معياراً للنجاح، الأهم هو ما الذي سيحدث بعد الترجمة، كيف ستحدث القراءة. هنا يتبادل المؤلف والمترجم الأدوار، بحيث يتجاوز الأمر عملية النقل من لغة إلى أخرى، لا أقنعة هنا.
الاستقبال الجيد الذي أشرت إليه هو محصلة جهد مشترك، هذا ليس تواضعاً بقدر ما يعبر عن فهمي لفكرة ترجمة الأدب، صدور ترجمة بالنسبة إلي لا يختلف عن صدور الكتاب بالعربية للمرة الأولى، أتحدث عن القلق والتخوف، الترجمة هي كتابة ثانية تمنحك رفاهية التلقي التي تفتقدها بلغتك الأم.
■ لطالما كان الإنتاج الأدبي متصدراً واجهة المشهد الثقافي الفلسطيني خلال العقود الماضية… هل تراجع الأدب اليوم مقابل فنون أخرى قفزت إلى الواجهة كالسينما أو الفنون التشكيلية مثلاً؟
هناك اهتمام واضح بحقول إبداعية غير الكتابة الأدبية، هذا جزء من العصر. ولكن الإبداع الأدبي لم يتراجع بل أجد هناك تطوراً هاماً وملفتاً في هذا المجال، الرواية مثلاً، الرواية الفلسطينية تشهد في السنوات الأخيرة حضوراً حقيقياً في المشهد العربي، على يد أسماء جديدة نضجت خارج الوصاية السياسية وخارج الشرط «الوطني» بمفهومه السياسي الصغير، وذهبت إلى مناطق بحث معرفية وفنية «محرمة» أو غير مطروقة، مثل ربعي المدهون وعاطف أبو سيف وأكرم مسلم وعدنية شبلي وأنور حامد وزياد خداش، رغم أن الأخير لم يكتب الرواية إلا أنه يدفع سرده نحو مناطق جديدة.
ثمة انحسار في اهتمام المؤسسة الثقافية، الأهلية والرسمية، في المنجز الأدبي، لو استثنينا مؤسسة القطان وتامر. الأمر متداخل تماماً، فالتوجه نحو الفنون البصرية والأدائية يبدو طاغياً، إذ أنه يتواءم مع شبكات التمويل والجهات المانحة، إضافة إلى أن الشرائح التي تولت وضع السياسات لهذه المؤسسة قادمة في معظمها من اهتمامات لا تشكل اللغة أو الكتاب هاجساً أو أولوية بالنسبة لها، بحيث تركت هذه المهمة للمؤسسة الرسمية، ليس بسبب إحساسها بالمسؤولية بقدر عجزها عن التعامل مع العصر. ولذلك فإن اختياراتها انصبغت بتلك النزعة القائمة على نفي المنجز الأدبي الجديد والتجارب الجديدة، والإصرار على إعادة إنتاج ما يلائم ذائقتها ووعيها ومحاولة فرض هذا الوعي على المتلقي.
■ ماذا بعدَ مجموعتك الأخيرة «مشاة ينادون إخوتهم» (2015)؟
ليس لدي خطة. هناك نصوص غير مكتملة في الشعر والسرد. لكن قريباً ستصدر الترجمة الانكليزية التي أنجزها سام وايلدر لرواية «وصف الماضي» عن دار «سيغل» و«جامعة شيكاغو» بمقدمة كتبها الشاعر الفلسطيني الأميركي فادي جودة، سيكون إطلاق الكتاب والتوقيع في معرض الكتاب في أدنبرة في آب (أغسطس)، وفي شباط (فبراير) 2017 ستطلق مختارات القصائد المبكرة (1984 – 2000) عن «دار كوبر كانيون» بترجمة وتقديم فادي جودة الذي اختار لها عنوان «الصمت الذي يبقى». سيكون الإطلاق في معرض الكتاب ومؤتمر الكتاب الأميركيين في واشنطن، وهناك ترجمات أخرى قادمة أيضاً، والأهم أنني أفكر في إجازة طويلة.
صحيفة الأخبار اللبنانية