غسان شربل يتعقب أسرار القذافي الديكتاتور عبر رفاق خيمته (عبده وازن)
عبده وازن
تتعدّد قراءة كتاب غسان شربل «في خيمة القذافي: رفاق العقيد يكشفون خبايا عهده» (دار رياض الريس)، أولاً في تعدّد «الرفاق» الخمسة الذين كانوا إلى جانب الزعيم الليبيّ سراً وعلانية، طوال عقود، ثمّ في تعدّد المداخل التي تتيحها «الشهادات» التي حمل الكاتب أصحابها على «الإدلاء» بها، مستدرجاً إياهم إلى كشف خفايا القذافي وفضح أسراره التي كانت لا تزال مجهولة، ومنها ما يثير الدهشة والاستغراب جرّاء فداحتها. الحوارات مع هؤلاء «الرفاق»، التي كانت نشرت على حلقات في صحيفة «الحياة»، تلتئم هنا في الكتاب لتنسج سيرة شبه شاملة للزعيم أولاً، شخصاً وثائراً وحاكماً وطاغية هو فعلاً نسيج وحده، كما يقال، ونسيج هواجسه وأوهامه، وثانياً للثورة الليبية، التي كان القذافي واحداً من قادتها في الأول (الفاتح) من سبتمبر 1969، وثالثاً للانقلاب الذي قام به عام 1975 ومهّد له الاستئثار بالسلطة حتى تاريخ خلعه وقتله الشنيع…
ومهما سعى غسان شربل، رئيس تحرير «الحياة»، الى التنصّل من مهمة «التأريخ» منحازاً إلى مهمة الصنيع الصحافي، كما عبّر في ختام مقدّمته المهمة، معتبراً الكتاب عملاً صحافياً «يوفّر شهادات لرجال أقاموا أو دخلوا خيمة المستبدّ وعملوا معه في مراحل مختلفة»، فهو لا يقدر على التبرؤ من فعل «التأريخ»، وربّما التوثيق، وإن لم يلجأ إلى اعتماد منهج تأريخي ما أو طريقة في البحث، لكنّ ما خرج به من حواراته مع «الرفاق» الخمسة الذي عرفوا «الطاغية» عن كثب وعاشوا معه وشاركوه قراراته، وربّما أعماله الشنيعة، يشكّل مادّة مهمة، غنيّة و «دسمة» تصلح لأن تكون منطلقاً لكتابة تاريخ العقيد وتاريخ الثورة، وكذلك تاريخ الحقبة الأخيرة من ليبيا، وهي حقبة دامت زهاء أربعة عقود كان القذافي خلالها الآمرَ والناهي والحاكم بأمر نفسه وأمر استيهامه السلطة العليا، الماروائية أو الغيبية.
التأريخ الحي
ولعلّ هذا «التأريخ» الذي ابتدأ عبر الحوارات شفوياً، ثم انتقل الى الكتابي، يحمل الكثير من الصدقية، بصفته تأريخاً حياً، مروياً على لسان الشاهدين له وعليه. وهو لم يخضع لأي تضخيم أو تحجيم، كما يحصل أحياناً في كتابة التاريخ. ولم يكن في مقدور أي واحد من هؤلاء «الرفاق» أن يزوّر في شهادته، فهو ما برح على قيد الحياة، وشهادته ستخضع لحكم شهود آخرين كانوا على بيّنة من أسرار حكم القذافي ومفاتيحه. وربّما حاول أحد الشهود أن يبرّئ نفسه من تهم قد تطاوله، وأن يتملّص من أفعال شنيعة شارك فيها أو غض عنها، أو أن يمنح نفسه دوراً لم يكن له أن يقوم به، لكنّ الشهادات هذه تظل خير مرجع لقراءة عهد القذافي وظاهرته الشاملة. ولعل أهم ما في هذا العمل الذي قام به غسان شربل، هو إتاحته الفرصة أمام القارئ للمقارنة بين اعترافات الشهود وكلامهم، وكان قد التقى كلاًّ منهم في معزل عن الآخر. والمقارنة هنا بين الشهادات تؤكد توافق «الرفاق» على معظم الأمور التي تمّ تداولها، وعلى الأسرار والخفايا التي فُضحت، وعلى الروايات التي سُردت عن الثورة والحكم المستبدّ والقرارات الخطرة… إلاّ أن شهاداتهم بدت مختلفة تبعاً لاختلاف مواقعهم أو وظائفهم في الدولة أو الحكم، ممّا أضفى عليها مزيداً من الغنى والشمولية. عبدالسلام جلود، عبدالمنعم الهوني، عبدالرحمن شلقم، علي عبدالسلام التريكي ونوري المسماري… إنهم الرفاق الذين نجوا من «مشنقة» القذافي ومن «أحواض ماء النار» التي كان يذيب فيها أجساد المعارضين و «الخائنين»، لكنّ بعضاً منهم لم ينج من السجن والإقامة الجبرية والإذلال الذي كان الزعيم يمارسه والعزل…
وكان على هؤلاء أن ينشقّوا عن النظام عشية اندلاع الثورة، في اللحظة المناسبة التي أتاحت لهم الهروب من جحيم القذافي ثم من جحيم الحرب التي دمّرت المدن الليبية… وقد أعرب بعض هؤلاء الشهود، مثل الكثيرين من السياسيين والإعلاميين والمواطنين، عن تحسّرهم على مقتل القذافي، الذي فوّت عليهم فرصة الاستماع إليه يعترف أمام المحكمة بما ارتكب من جرائم و «حماقات»، ولكن… لو ظلّ القذافي حيّاً، فهل كان ليعترف بآثامه و «مآثره»؟ لعلّ شهادات هؤلاء الرفاق واعترافاتهم قد تعوّض القليل أو الكثير ممّا كان القذافي سيقوله لو ظل حياً ومَثُلَ أمام المحكمة، وإن شاء طبعاً أن يعترف. وهؤلاء الخمسة أبدوا امتعاضهم من الطريقة الوحشية التي قتل بها القذافي، مثلهم مثل الكثيرين الذين شاهدوا مقتله على الشاشات الصغيرة.
تتعدّد إذاً قراءة هذا الكتاب، وكذلك مداخله، فمن شاء أن يقرأه سياسياً فهو يجد فيه ضالّته، ومن شاء أن يقرأه تأريخياً وتوثيقياً فهو يكتشف فيه مادّة مهمة، لا سيما في ما يرتبط بثورة الفاتح من سبتمبر وتفاصيلها العسكرية وكذلك الحقبة التي أحكم المستبدّ قبضته فيها… ومن أراد البحث عن مواصفات القذافي بصفته «ديكتاتوراً» نموذجياً، متفرّداً بملامحه وعاداته و «خصاله» غير الحميدة، فهو يواجه حكايات ووقائع غريبة تفوق التصوّر.
القارئ الذي يبحث عن ملامح القذافي الديكتاتور، يدرك منذ الوهلة الأولى أنّ المقدّمة التي كتبها شربل للكتاب تضعه وجهاً لوجه أمام القذافي الديكتاتور. وتنمّ هذه المقدّمة الجميلة والعميقة عن مدى إلمام شربل بصورة الديكتاتور كما تجلّت روائياً، هو المعروف عنه اهتمامه بالروايات الأميركية اللاتينية، فالمقدمة حملت خلاصة خصائص الديكتاتور الليبي كما تتبَّعها شربل من خلال الشهادات، مع أنّ هدف الكتاب لا ينحصر في هذه المهمة فقط، بل يتعدّاها إلى شؤون سياسية وتاريخية. وقد يشعر من يسعى إلى استخلاص هذه الصورة، أنّ الكاتب سبقه إليها في المقدمة، وهذا ما يدفعه أكثر إلى متابعة هذه الشهادات بحثاً عن ضالته، وجمع «أوصاف» القذافي كما تتالت في الكتاب.
السفاح الجبان
يعترف رجال النظام الخمسة أنّ القذافي عندما وهب إيران صواريخ خلال حربها مع العراق لم يتردد في أن يسأل نفسه: «كيف ستضرب صواريخنا مدينة عربية؟». كرهه لصدام حسين دفعه إلى مناصرة إيران ومساعدتها على قصف العراق. كان يشتم صدام باستمرار، وينعته بـ «الغبي»، وكان صدام يعامله بالمثل، وعندما سقط صدام في أيدي الجنود الأميركيين أصيب القذافي بالهلع، هو المعروف عنه الجُبن بامتياز. لكنّ الديكتاتور الجبان لم يكن ينثني عن ارتكاب المجازر وعن القتل بلا رحمة، وهكذا ارتكب مجزرة بوسليم، قاضياً على ألف وأربعمئة سجين من الإخوان المسلمين دفعة واحدة، كما أعدم بوحشية في عام 1998 رفاقاً له حاولوا الانقلاب عليه. لم يكن القذافي يرحم أحداً، حتى أقاربه كان يقتلهم ويشنع بهم ويعلقهم على الأشجار أو يسحلهم على طريق باب العزيزية. وعمل على «تصفية» الليبيين في شوارع أوروبا بدءاً من عام 1980، وكان يسميهم «الكلاب الضالة»، وكان كلما اكتشف أنّ أحداً يعارضه يقتله للفور، أو يذله بالمال. كان يعتقد أنه إله ولا يجوز لأحد أن يعارضه. كان مصاباً بجنون العظمة، مريضاً بالسلطة، ويظن أنّ القوى العليا خوّلته أن يحكم وحده أو مع أبنائه، وبقية البشر عبيد. القائد التاريخي هو صاحب رسالة تتخطى ليبيا والعالم العربي، كان يشعر أنه مدعو لتغيير العالم. وهكذا، لم يتورع عن الدعوة إلى تقسيم سويسرا وطردها من الأمم المتحدة، لأنها تجرأت على ملاحقة ابنه هنيبعل وزوجته، قانونياً، لارتكابهما جنحاً فاضحة. ولا تُنسى إطلالته الشهيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين حاول تمزيق ميثاق الأمم، وعندما عجز عن تمزيقه لسماكته، رماه أرضاً أمام أعين العالم. ومرة طالب الأميركيين بمعاودة فتح ملف اغتيال الرئيس جون كينيدي. كان فعلاً يشعر أنه مكلّف مهمة تغيير العالم.
ديكتاتور نرجسي، نصب نفسه مرجعاً وحيداً في البلاد، فكان الحاكم والوزراء في آن، كان المفكر الأول والكاتب الأول والرياضي الأول… يشتري المطبلين والمزمرين والمداحين كيفما اتفق. وعندما أصدر كتابه القصصي اليتيم تسارع الكتاب والنقاد العرب إلى تقريظه مقابل مكافآت كان يذلّهم بها، وكم استمرأ المدائح تأتيه من الشرق والغرب، وصدّق ما قيل له مرة: «أنت غيفارا مضروباً بمئة». ولا تُنسى الصورة التي ظهر فيها الرئيس الإيطالي الفاسد برلوسكوني يقبل يد القذافي منحنياً أمامه، وكلفة هذه الصورة كانت باهظة على أكثر من مستوى. وكانت نرجسيته تبلغ به مبلغاً يغار معه من سيف الدولة ومديح المتنبي له. ومرة حمّل وزير خارجيته علي عبد السلام التريكي رسالة الى الملك الحسن الثاني يقول له فيها: «أنت رجل رجعي وعميل». كان استعلائياً، شديد الاستعلائية إزاء الرؤساء والمثقفين، وكان يتحكم بهم عندما يزورونه، مؤثراً دوماً أن يجلس على كرسي عال ليُشعرهم أنهم دونه مرتبة. وكان في أحيان يزيد احتقاره لهم فيدعهم ينتظرون بعد أن يتأخر عمداً عن موعده.
يجمع الزعيم الليبي في شخصه ملامح عدة لأكثر من ديكتاتور عرفهم العالم طوال حقبات، إنه ديكتاتور الديكتاتوريين. ولا غرابة أن يذكّر بماو تسي تونغ، عندما قام بتقليده في وضع «الكتاب الأخضر» في مقابل «الكتاب الاحمر»، وفي الادعاء الثقافي والفكري، وشتان ما بين الكتابين. ويقال إنّ جهة ماسونية كانت وراء وضعه هذا الكتاب، الذي فرضه على شعبه بمثابة كتاب مقدس، وأمر بترجمته إلى معظم لغات الأرض، ومنها العبرية. ويقال إنه كان يحب القراءة والشعر العباسي، وبخاصة أبا تمام والبحتري، وكان يهوى الاستماع إلى الشعر يلقيه عليه جُلاّسُه. ويقال أيضاً إنه قرأ ماكيافيلي وتأثر به وأنشأ ماكيافيلّيته الخاصة، القائمة على الحيلة والقهر والقمع والترهيب والتجهيل والقتل والإلغاء… ولم تكن دعوته الى «الجماهيرية» إلاّ ضرباً سياسياً احتيالياً ولعبة سلطوية وتسلطية. ويشبه القذافي في قسوته ولارحمته وإجرامه وجنونه طغاة مثل ستالين وكيم جونغ إيل وفرانكو وتيتو وتشاوتشسكو (صديقه) وسواهم، وهو قارب النموذج الأفريقي الديكتاتوري، فكان دموياً مثل بوكاسا آكلِ لحوم البشر، أو مثل موبوتو آكلِ دماغ القرود… لكنّ القذافي القاتل كان يهوى غسل يديه وساعديه بدم الغزال الذي كان يذبحه بنفسه، وكان يهوى أيضاً ذبح الخرفان في خيمته الشهيرة، التي كان يحملها معه في حله وترحاله، وكان يعدّها رمزاً إحيائياً للبداوة التي يحملها في دمه. لكنّ دمه لم يصفُ من الأثر اليهودي الذي ورثه عن أمه اليهودية الليبية، وكانت هذه الوراثة وصمة في حياته، فكان يقضي على كل من عرف بها أو سأل عنها، مهما كان قريباً منه. أما دمويته «الكانيبالية»، فبلغت أوَجَها في علاقته بالنسوة، اللواتي كان ينقضّ على بعضهن عضاً و «نتشاً»، وقد وقعت نسوة كثيرات كالفريسة بين أنيابه، وكان يغطي الفضيحة بالمال، إن أمكن. ولعل الفضيحة الكبرى التي أثارتها إحدى الشهادات، أن القذافي كان ثنائي الهوية الجنسية، شاذاً، وفي شذوذه نفسِه كان مزدوجاً، إيجاباً وسلباً.
لا يمكن إحصاء أسرار القذافي أو خفاياه وخباياه، أو بالأحرى فضائحه التي وردت في شهادات رفاقه الذين حاورهم غسان شربل واستدرجهم إلى الاعتراف والبوح بما كان مخفياً في حياتهم وذاكرتهم. وهذه الأسرار التي تكتنف حياة القذافي ومسيرته وشخصه الغريب الأطوار والأمزجة، تشكل مادة غنية لكتابة رواية فريدة عن القذافي، الديكتاتور الفريد الذي اختصر في شخصه نماذج تاريخية لشخصية الديكتاتور. هذا كتاب يُقرأ بالمتعة التي توفرها روايات الواقعية السحرية التي تجلت في أميركا اللاتينية.
صحيفة الحياة اللندنية