غياب الطبيعة و حضورها
أكاد أقول أن لا وجود لافت للطبيعة في شعرنا الحديث، أكاد أقول ذلك بسبب ندرة النصوص الشعرية التي تعاملت مع السماء مثلا في حالاتها المتنوعة بين الصحو و التغيير، أو الجفاف و بلل المطر، و بين الرعد و السكينة بل وأين الأرض بأشجارها في الغابة أو في شوارع المدينة، أو الشجرة المنفردة في الوعر ، أو الشجرة الضخمة بظلالها و هيبتها في ساحة قرية أين الأزهار و أين الأطيار، و أين الشمس بين شروق وغروب، والقمر بين إكتماله بدرا و ضآلته هلالا..ألخ.. أين كل هذا وغيره من سمفونية الطبيعة المغنية، الراقصة أو الباكية أو الراهبة الجليلة أو البادية الفقيرة والصحراء الخاوية … أين كل هذا مما تواصلنا معه في الجاهلية والإسلام، في المشرق كما في المغرب كما في الأندلس …إلى أن بدأ الإنحطاط و أستمر إلى عصورنا الحديثة وقد توالت النكبات وتراكمت الهموم على العرب و المسلمين عامة فإذا بالشعر يغدو أناشيد متقاربة في هجومها على الإستعمار وشكواها من الإستبداد فإذا ما قرأنا قصيدة “الغروب” لخليل مطران أو ” الربيع و وادي النيل” لأحمد شوقي مثلا أخذتنا الدهشة وكأننا نقرأ عن عالم مجهول و مشاعر منسية تعود.
تذكرت كل هذا وأنا أقرأ شعر ” الهايكو ” الياباني فسحرني هذا التناغم الحميم بين الإنسان و الطبيعة، أو أمضي إلى شعراء من أمم أوروبية أو آسيوية حيث أتمتع بقصائد لا أعمق منها و لا أبلغ في فهم الطبيعة كموضوع إنساني وفلسفي أحيانا مثل قصيدة ” البحيرة ” للشاعر الرومانسي الفرنسي الشهير “لامارتين” وغيرها لـ ” طاغور” الشاعر الهندي الفيلسوف الحائز على “نوبل” في شعره و المترجم إلى العربية …
تصوروا أن أمير الشعراء بريطانيا (( تيدهيوز)) – المتوفي عام 1988 – بنى مجده كشاعر بشكل أساسي على الشعر الذي استلهمه من خلال تأمله العميق لمعجزة الحياة والموت في الطبيعة حوله. حين كتبوا عنه – كما أذكر- في إحدى الصحف العربية لم يجدوا فيما لديهم من مراجع سوى قصائد تحمل مثل هذا العنوان ” يحط الغراب” تعبر عما يوحيه منظر غراب
وحيد يحط على طرف حائط واطئ و يتأمل الدنيا حوله فترة طويلة ، أو قصيدة أخرى يصف فيها ” تيدهيوز” الطبيعة على شاطئ البحر والريح تعصف فوق الماء وعلى الشاطئ … و غيرها من قصائد مماثلة …
ماذا تعني حقا هذه الظاهرة ، أن تحضر الطبيعة بكل مناظرها هناك و يندر حضورها لدينا ؟ لا ريب أن عصور الإنحطاط التي فقدنا فيها تفوقنا الحضاري والممتدة حتى أيامنا هذه هي التي أثقلت روحنا بما يعنيه التخلف من طغيان البؤس والغضب والحزن والجهل و ما يوحيه كل هذا للشعراء والكتاب عموما من موضوعات بائسة بعيدا عن موضوعات الفرح بالحياة و الجمال و ما توحيه سمفونية الطبيعة الخلابة.