غيورغي غوسبودينوف: النوستالجيا كأداة سياسية

هل يبدو لك الحاضر بغيضاً؟ هل المستقبل غير مؤكد؟ ماذا لو اخترت الماضي؟ هذا هو جوهر رواية «ملجأ الزمن» (2020) للكاتب البلغاري غيورغي غوسبودينوف، الصادرة أخيراً بلغة الضاد عن «دار الآداب» (ترجمة نيديليا كيتايفا). في هذه الحكاية الفلسفية المُشبعة بالحنين، يستكشف الكاتب علاقتنا بالزمن والذاكرة والنوستالجيا عبر عالم يصبح فيه الماضي ملاذاً آمناً، بل ربما مهرباً.
على عكس الأعمال الكلاسيكية في أدب الخيال العلمي، لا يستخدم غوسبودينوف بوابات زمنية أو آلات للسفر عبر الزمن. بل هنا، تبدو العودة إلى الماضي مشروعاً مدروساً ومتعمّداً، يقوده غاوستين، الشخصية الغامضة والمثيرة للاهتمام. يؤسس غاوستين عيادات للماضي تهدف إلى مساعدة مرضى ألزهايمر على استعادة ذكرياتهم القديمة المنسية، لكن سرعان ما تتحول إلى ملجأ للناس الهاربين من الواقع المعاصر والمؤلم. اللطيف أنّ هذه العيادات تمنح المرضى فرصةً لعيش أزمنتهم المفضلة مجدداً، حيث يعيد طاقمها الطبيّ بناء تفاصيل تلك الفترات الزمنية بعناية: الأثاث، الصحف، الموسيقى، الأخبار، بل حتى التفاصيل الحسّية.
في البداية، يبدو المشروع فردياً، لكنه سرعان ما ينتشر عالمياً، وتبدأ الدول الأوروبية بالتفكير في إعادة مجتمعاتها بالكامل إلى عصورها الذهبية. وهنا تطرح الرواية سؤالاً معقّداً: كيف يمكن للعالم أن يستمرّ عندما تعيش كل دولة في زمن مختلف؟ وهل يمكن للنوستالجيا أن تكون سياسة ناجحة؟
لا تتوقف الرواية عند حدود الحنين الشخصي، بل تغوص في البُعد الفلسفي للزمن. يتساءل الكاتب إن كان الزمن مجرد خط مستقيم، أم أنّه يمكن التلاعب به وإعادة تشكيله وفقاً لرغباتنا؟
عبر العيادات التي يُعيد فيها الناس إحياء ماضيهم، يُقدم غوسبودينوف رؤيةً جديدة للزمن على أنه مساحة نفسية قبل أن يكون مقياساً رياضياً. كما يطرح فكرة «غياب الزمن»، حيث تصبح أماكن مثل سويسرا مثالاً لحالة من السكون الزمني، دولة يمكنها استضافة الأزمنة جميعها، من دون أن تنتمي فعلياً إلى أيِّ منها. وهذا يعكس فكرة أن الماضي ــ رغم كونه معروفاً ـــ يمكن أن يصبح مجهولاً ومُربكاً إذا عُزِل عن سياقه التاريخي.
لا تكتفي الرواية بالتأمل الفردي في الماضي، بل تتجاوز ذلك إلى طرح تساؤلات سياسية عميقة. ففي عالم اليوم، حيث تتصاعد الشعبوية، وتتعزّز النزعات القومية، تُقدّم «ملجأ الزمن» استكشافاً مذهلاً لكيفية توظيف النوستالجيا كأداة سياسية، حيث يتحوّل الماضي إلى نموذج محتمل للحكم، وتتنافس الدول، لا على المستقبل، بل على إعادة إنتاج أفضل نسخة من ماضيها.
عبر التلاعب بالذكريات الجماعية والرموز التاريخية، تستطيع الحكومات خلق ارتباط عاطفي بالماضي وتوظيفه لخدمة سياساتها الراهنة. وغالباً ما تلجأ الأنظمة إلى استحضار فترات من العظمة الإمبراطورية أو النضال ضد الاستعمار لتحفيز مشاعر الفخر القومي وخلق وهم الاستمرارية في مواجهة التحدّيات المعاصرة.
ويظهر هذا الاستخدام بجلاء في الخطاب السياسي المعاصر، فنرى كلّ من الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعملان على استدعاء صورة ماضٍ مثالي ـــ سواء عبر شعارات مثل «أميركا عظيمة مجدداً» أو استرجاع صورة الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى ـــ لإثارة مشاعر الفخر القومي وتحفيز مؤيديهم.
ومع أنّ هذا التلاعب بالماضي يبدو وسيلة فعالة في السياسة الواقعية، إلا أن غوسبودينوف يتعامل معه بسخرية لاذعة في روايته. يصوّر دولاً بأكملها تُقرر العودة إلى عصورها الذهبية، فتصبح الانتخابات استفتاءات حول أي عقد زمني ينبغي أن تعيشه الأُمّة. وهكذا، تنقلب الرواية إلى كوميديا سياسية سوداء، يهتف فيها المواطنون: «ماذا نريد؟ الماضي! متى نريده؟ الآن!». غير أنّ تحذيراً شديد اللهجة يكمن خلف هذه الفكاهة: إذا عجزنا عن مواجهة الحاضر بجرأة، فقد نجد أنفسنا أسرى ماضٍ مصطنع!
يمكن مقارنة «ملجأ الزمن» لغيورغي غوسبودينوف برواية «1984» لجورج أورويل من حيث استكشافهما لتلاعب السلطة بالزمن والذاكرة الجماعية. في «1984»، يُعاد تشكيل الماضي باستمرار لتبرير الحاضر والتحكُّم بالمستقبل، حيث تعمل وزارة الحقيقة على تعديل السجلات التاريخية بحيث تتناسب مع رواية الحزب الحاكم. في المقابل، في «ملجأ الزمن»، لا يُفرض الماضي من قبل سلطة مركزية، بل يصبح سلعة يمكن للأفراد والمجتمعات اختيارها بحرية، ما يؤدي إلى انقسامات عميقة بين الدول العالقة في عصورها الذهبية المختلفة.
في الحالتين، يتلاشى المستقبل: في عالم أورويل يُمحى عبر القمع والاستبداد، بينما في عالم غوسبودينوف يضيع وسط فوضى الحنين الجماعي. الفارق الجوهري أنّ أورويل يُحذِّر من استبدادية تفرض ماضياً مزيفاً، بينما غوسبودينوف يكشف كيف يمكن أن يتحوّل الماضي إلى ملجأ خطير عندما يصبح بديلاً عن مواجهة الحاضر والمستقبل.
تتقاطع «ملجأ الزمن» أيضاً مع رواية «البحث عن الزمن المفقود» للكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست في مسألة استكشاف العلاقة المُعقّدة بين الزمن والذاكرة والهوية.
لكن بينما يُركِّز بروست على الذاكرة الفردية كوسيلة لاستعادة الماضي عبر التجربة الحسّية كما في مشهد كعكة المادلين الشهير، يأخذ غوسبودينوف هذا المفهوم إلى بُعد سياسي واجتماعي آخر، حيث تتحوّل النوستالجيا من حالة نفسية شخصية إلى مشروع جماعي خطير. في كِلا العملين الروائيين، الزمن ليس خطياً، بل متداخلاً، إذ تمتزج الحقب المختلفة في وعي الشخصيات. لكن في «ملجأ الزمن»، تصبح استعادة الزمن ممكنة بشكل ماديّ عبر عيادات تعيد خلق العقود الخالية السعيدة، ما يؤدي إلى فوضى زمنية حين تختار الدول استفتاء الشعب حول الحقبة التي يودُّ العيش فيها.
وإذا كان بروست يرى أنّ الزمن لا يُستعاد إلا عبر الفن والكتابة، فإن غوسبودينوف يُبرهن أنّ العيش في الماضي قد يكون فخاً يؤدي إلى انهيار المجتمعات.
في ظل الأحداث العالمية المعاصرة، خصوصاً مع صعود القومية والأحزاب اليمينية في أوروبا ومناطق مختلفة من العالم، تستشرف رواية «ملجأ الزمن» مخاطر العودة إلى الماضي كحلّ للمشكلات المعاصرة. رغم كونه نصّاً روائياً، يتجاوز هذا العمل حدود الأدب التقليدي ليصبح بحثاً فلسفياً في الزمن والذاكرة. بأسلوب يمزج بين السرد والبحث الفكري، يطرح غوسبودينوف رؤىً جديدة حول علاقتنا بالماضي والمستقبل. إنّها رواية استثنائية لمن يبحث عن قراءة تتحدّى العقل وتثير العاطفة، وتدعونا إلى التساؤل: هل يمكننا استعادة الماضي، من دون أن نفقد المستقبل؟
صحيفة الأخبار اللبنانية