فاتح المدرس يرتاد أكثر المناطق وعورة بريشته
فاتح المدرس (1922 -1999) أيقونة سورية بإمتياز، وسلسلة جبلية تشكيلية تمتد من مشارف عفرين إلى السماء التاسعة، مَعْلَم من معالم الحضارة السورية، ومن أبرز التشكيليين السوريين في القرن العشرين والذي قال عنه الفنان التشكيلي سرور علواني “فاتح المدرس وفان كوخ هما الفنانان الوحيدان اللذان يرسمان المئات من الأعمال الفنية بعد رحيلهما” وذلك لإبراز القيمة العالية لأعمالهما فيبدأ تجار السوق بتقليدها.
ولهذا من المستحسن قبل الإنتقال إلى قراءة أعماله ومحاورتها في مفاصيلها العميقة والدقيقة لا بدّ من الإشارة بأن المدرس يشكل مرجعيتين، الأولى مرجعية أسلوبية فهو من مؤسسي التجريد في سورية ومن أبرز رموز الحداثة في الفن التشكيلي السوري، والثانية مرجعية الخيال الفني الحامل للقيمة الفنية الجمالية مع ضرورة الإشارة بأن صياغاته التداولية وعلى مساحاتها الواسعة والممتدة في اللازمان والمرتبطة بالمتخيّل عموماً دون أن يغيب عن الذهن أن الفن التشكيلي ومع جميع الفنون الأخرى وفي كل زمان ومكان تشكل أهم مصادر إنشاء علم التاريخ، والمدرس دون أية مبالغة ساهم ومازال رغم رحيله منذ أكثر من عقدين من الزمن (1999) وبقوة في ذلك ونعترف سلفاً بأن أعماله مفتوحة الجهات، وتطل على السموات التسعة ولهذا ليست هناك أية محدودية للتساؤلات، فأعماله بعتباتها الدالة على تلك الجوانب المتعلقة بالثراء المدهش في آلياته وألقها وبمتنها المستمدة من الأرض والإنسان يجعلك تلاحق أدق التفاصيل، وبلا إقرار نهائي ستحتاج إلى توسيع دائرة الفرجة وهذا تقاطع تؤكده مشروعية ولادة أسئلة موحية في إحالاتها الكثيرة وبلا شكوك ستخرج بتفاصيل إفتراضية حققته مسارات مقارباته للحكايا المنبثقة أصلاً مما تبقى من الذاكرة، ولإستكمال رؤاه في حضوره المترقب للذات وكذلك للكائن الماثل لأفعال جلها إشارات تتعاظم مع تداخلاته الجديدة تقنياً على نحو أكثر، فكل رقعة منها (من منتجه) مشحونة بكم هائل من الطاقة والضوء اللتان تساعدان المتلقي في تشكيل أفقه الغائم جزئياً والذي سيعوم فيه بالإضافة إلى جعله يتابع بدأب ونشاط تلك التفريقات الدقيقة واللامتناهية في وظائفها والتي ستؤوله إلى عدم الإنزلاق في العدم، وهنا أود أن ألفت النظر إلى أن بعض أعماله يمضي بالمتلقي إلى خلاف ما يتوقع وبالتالي لا يلبي حاجاته بل يرميه بين تلك الحاجات ليتحول فيما بعد إلى جزء منها، وبالتالي سيدفعه إلى البحث عن مخارج توصله ودون بوصلة إلى حوار لا ينتهي، قد يدفعه لاحقاً ومرغماً إلى الإختباء وراءها مع تحليل الجزء اليسير من عهودها التي تتجاوز التقسيم القهري للحالة، وهذا ما يذيل نهاياته بأسئلة فيها من التعقيب الشيء الكثير، ودون غياب لمظاهر تحولاته التاريخية والتي تجري ضمن فضاءاته تحتاج فقط لمسافة تواصلية حتى تقر بملحمة ما يقودك.
فاتح المدرس يملك فلسفة جمالية وهذا ما منحته طريقة للفهم والحياة وبالتالي قادراً على رسم جسور يمكن أن نقرأ من خلالها المتخيل الفني والإجتماعي معاً، فهو يبتكر لغة تتكئ على رؤيا جديدة تختلف عن لغة التداول، يبتكر لغة تجعله يستوحي تجلياته من سيرته الذاتية حيناً ومن التخيّيل الذاتي في أحيان أخرى، فهو يسهم كثيراً في بلورة الفكر الجمالي بعيداً عن اللغة المتخشبة، فهو يهتم كثيراً بالعودة إلى الذات والتغلغل فيه مما يجعله يفتح مجالات واسعة جداً لقراءة المتخيّل في شطره ذي الصِّلة بأفق يعيش فيه بذهنية دونكيشوتية مع الإرتياد لمجالات من الممكن تأويلها بتجاوز عقباتها وويلاتها، فالمدرس يمارس شخصنة الأشياء بفكر نهضوي قواعد البناء فيه مأخوذة من تحولات سردياته بنزوعها الإطلاقي مع حضور العناصر الموروثة بإنطوائيته للتفاعل مع التكوينات المتسربة إلى حواريه، لهذا يهتم بإعادة الخلق في كل تجربة ولهذا يرتاد أكثر المناطق وعرة علّه يدفعنا إلى إعادة تأويل جديد مبني على رفض الساكن فاللحظة تتحول بين أصابعه إلى قيمة تنظيرية وببساطة فالمدرس يخرجنا من المقولات الموروثة بالقسر ليفتح لنا كوات ونوافذ لمفاهيم جمالية فلسفية دون أن يغفل آليات التكريس مع رفع مستوى العمل الفني إلى مستوى فلسفي قيمي، وهذا يقربنا من مقولات يدفعنا المدرس بها نحو صياغات جديدة مع التمسك جيداً بلحظة الخلق أو بلحظة الإجتياح والذي سيدفع بالمتلقي إلى كسر حاجز العزلة في دوائرها الزمنية كلّها.