فانتازيا الواقع القاهري في «رسائل سبتمبر»
في روايته الثانية «رسائل سبتمبر» (توبقال– المغرب)، يخوض الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان تجربة روائية يدمج فيها بين الواقعية المطلقة، من حيث المكان والزمان، وبين المضمون الحكائي الفانتازي من جانب الحبكة والشخوص.
وعلى عكس ما يوحي العنوان الرومنطيقي في كلمة رسائل وتجاورها مع شهر سبتمبر (أيلول)، فإنّ الحدث الرئيس في الرواية هو وصول رسائل من عزرائيل إلى أشخاص معينين قبل وفاتهم بيومين، يخبرهم فيها أنه قادم ليقبض أرواحهم.
هذا هو الحدث المحوري الذي يتفرع إلى وقائع أهمها حدوث الموت فعلاً وفقاً لقانون الرسائل وتحول الأمر إلى ظاهرة عادية تحتاج من الحكومة إعلان موقفها والتصدي لها، حينها يتم وضع قانون «منع الدهشة»، حيث يعاقب كل مواطن يعبر عن دهشته من ورود الرسائل. يقول: «انشغل منصور حرب في الأيام الأخيرة في التدبير لعمليته المنتظرة، بحيث بات يخطط لقتل الوزير الذي أقرّ قانون الدهشة. لم ينتبه أحدٌ إلى أن منصور حرب لم يتلقّ رسالة موت، لم ينتبه أيٌ من الضباط أو الحراس أو المسؤولين، حتى عشماوي الذي كان اسمه الحقيقي عبد ربه لم ينتبه. لم يلاحظ أحد أن منصور هو أول من يموت في القاهرة منذ بداية سبتمبر من دون أن يتلقى رسالة موت، لم ينتبه أحد إلا زياد الشافعي».
على النقيض من رواية «انقطاعات الموت» لساراماغو، حين يغيب ملاك الموت عن الحضور لقبض أرواح البشر، فإن «رسائل سبتمبر» تدفع بالموت إلى الواجهة، لأن عزرائيل في الرواية يُمثل الملاك القادر على الحديث عن مهامه قبل القيام بها، علماً أن الكاتب اختار اللعب على فكرة هويات الأشخاص الذين يتلقون الرسائل، إنهم أشخاص في مواجهة الحدث، الأضواء مسلطة عليهم لسبب من الأسباب، وليسوا قابعين في الظلّ.
يتمّ السرد عبر راوٍ عليم، ما عدا الصفحة الأولى المكتوبة بخط مائل وتنحو لغتها إلى الدمج بين السرد الاسترجاعي والتنبؤي الساخر على اعتبار ما سيكون يوماً: «عندما أخبره أحدهم أن هناك روائياً مصرياً اسمه ألبير قصيري يسخر من السلطة وعفنها، أمر بالقبض عليه، فأخبروه بموته فأمر بنبش قبره ونثر ذراته في البحر».
تمكن الكاتب من تقديم شخصياته بذكاء، عبر تحديد مواصفاتهم الجسدية والنفسية، من دون الاستغراق في تفاصيل كثيرة. نتعرف إلى أبطال الرواية إسماعيل الفايد، مرشح رئاسي يعلم أن فرصته بالفوز في الانتخابات تكاد تكون معدومة، ويموت عقب رسالة تلقاها من عزرائيل. هناك أيضاً زياد الشافعي وهو إعلامي متلون، يضع عشرات الأقنعة على وجهه، حبيبته ليلى السحار، التي تصاب بمرض مفاجئ وتبدأ رحلتها مع الموت من دون أن تتلقى رسالة من عزرائيل، بل إن زياد يخطط لقتلها عبر الاستعانة بمنصور حرب، وهو قاتل مأجور.
تبرز الرواية فانتازية العيش في القاهرة، فالمسرح الروائي للسرد مدينة القاهرة مع تحديد أماكن معينة فيها، أما الزمان فهو بعد ثورة يناير 2011. ثم خط فانتازي آخر ليس من جانب فكرة رسائل عزرائيل فقط، بل أيضاً من جانب الحديث في مطلع الرواية عن منع الحكومة تداول كتب نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور وحظرها من الأسواق واستبدالها بكتب أخرى من عينة «الرجل المستحيل».
في مقابل الخط الفانتازي، تضمنت الرواية خطاً واقعياً يوضح تفاصيل كثيرة تتعلق بالزمان والمكان، عبر الحديث عن التحولات المكانية في مدينة القاهرة التي تعمد رصدها في أكثر من مكان، كأن يقول: «في مواجهة الشارع الجانبي تقع سينما التحرير التي كانت أكثر السينمات رقياً في الثمانينات والتسعينات، قبل أن ينحدر بها الحال مع صعود سينما المولات». أو أن يقول: «كانت وسط البلد، أقصد وسط البلد الحقيقية، هي مركز التقاء الصفوة في بدايات القرن ومنتصفه، ثم ومع الانفتاح حلت محله أماكن جديدة، الزمالك، المعادي، مصر الجديدة، إلى أن اتسعت الهوة الشاسعة بين طبقات الشعب».
استعان الكاتب بالسخرية والعبث للتعبير عن فكرته، بحيث يحكم العبث واللامعقول معظم أحداث الرواية، حتى في سرقة محل الأقنعة التي يرتديها زياد يومياً، واستبدالها بكمامات. أيضاً حوار ليلى مع ملاك الموت عن حب الحياة، وتتصاعد السخرية حيث أزمة انقطاع الكهرباء في الصيف لا تقابلها إلا أزمة رسائل الموت التي لا تجد لها الحكومة أي تفسيرات تقدمها إلى الشعب.
لكنّ الكاتب يتكل على خبرة القارئ المتراكمة عن مدينة القاهرة، عما يعرفه عنها وما يشاركه فيها أبناء واقعه وزمنه. هكذا تحضر في الرواية بلورة أو تكثيف لأهم الوقائع من بعد عام 2011. فالراوي الذي يحضر في الصفحات الأولى لديه رغبة كبرى في سرد الحكاية، كما لديه خوف من ضياعها. يتقمص شخصية السارد ليحكي الأحداث على مسامع «عيد» القهوجي. وفي اختيار شخصية عيد الذي ليس له أي دور محوري في الرواية، نلتمس خروج الكاتب عن تنميط السرد في أن تُروى الأحداث لشخص مهم..
«رسائل سبتمبر» عمل روائي محكم من جانب البناء، يقدم الواقع بأسلوب فانتازي لأبطال موجودين بيننا، ومنهم من تقطعت علاقته بالإنسانية، ويرى العالم عبر قناع السلطة والمال والشهرة وفي داخله مجرد خواء. لذا يمكن القول إنه لا توجد حدود للروائي في صوغ شخصياته ووضعها في سياقها الاجتماعي المتزامن مع الدوافع التاريخية، لكنّ الشرط الأساسي أن يكون مقنعاً من الجانب الفني، بحيث يبدو في الفصل الأخير توحد بين الفكرة الفانتازية والواقع مع تحول الرسائل إلى أمر مفروغ منه لا يوليه البشر اهتمامهم. إنه مثل سائر الأمور العجيبة التي تقع في مدينة القاهرة وتظل خارج نطاق التفسيرات المنطقية.
صحيفة الحياة اللندنية