فتنة الحكاية في رواية “نداء البراري”

 

قيمة الأعمال الأدبية تكمنُ في فرادتها واكتشاف ما هو مجهولُ بالنسبة للقاريء إضافة إلى قدرة الكاتب على إقناع المتلقي بما يرويه في إطار عمله ويبدو أن العفوية التي تتصفُ بها حركة السرد في الأعمال الكلاسيكية هي عنصرها المميز، لذلك فإن ما يشغل اهتمامك في أجوائها هو القصة التى يعتمدُ عليها العملُ ولا وجود للتساؤل عن نوع الراوي أو توزيع الشخصيات بين الثانوية والأساسية الأمر الذي تلمسه في “نداء البراري” لجاك لندن حيثُ يدفعُ الكاتبُ بالكلب (باك) إلى معترك قصته وكلما يمضي السردُ تتصاعدُ نسبة التشويق ويكون الإنتباه مشدوداً أكثر إلى الرحلة التي يقومُ بها (باك) من حياة الدعة والمدنية إلى شراسة الصراعات مع كلاب أخرى ومواجهة قساوة المناخ إذ تنخفض درجات الحرارة وتتجمد الأنهار والبحار وتنتقلُ ملكية “باك” بين السماسرة والباحثين عن الذهب وفي الأخير يعودُ إلى طبيعته ويستجيبُ للنداء الذي يتنامي إليه.

طبعا هذا العمل الروائي يضمر نزعة يسارية ويظهر جاك لندن سطوة الكائن البشري ويشير في سياق سرده الممتع إلى صفقات البيع والشراء كما أنَّ عودة عدسة السرد إلى تصوير المكان الذي يتراكم فيه الذهب الذي جمعه جون ثورنتون وأصدقاؤه قبل أن يهاجمهم أفراد من القبائل البدائية إشارة إلى أن المال سيكون هوس الإنسان المتحضر وأن المغامرات لإكتشاف مصادر الثروة تستمر وهذا يكون عاملاً للوصول نحو مناطق جديدة إذاً فإنَّ ما يخطُ التاريخ هو افتتان الإنسان بارتياد إلى المجهول، وفي ذلك متعة وتطور وقد ينتهي مطاف بهذه الرحلة أحيانا بنتيجة عبثية.

الحكايةُ تتخذ شكلها في إطار القصة المسرودة والحبكة هي نواة أساسية لنظام السرد إذ لا تسقيمُ وحداته دون ما يؤسسُ لتسلسل الأحداث المُتتالية وهذا ما يؤطر برنامج الروايات الكلاسكية التي تمتازُ بسرد مُتماسك بعيداً عن التشظي في البعد الزمني مثلما يحصل ذلك في الروايات الحديثة حيثُ خط الزمن يكونُ تصاعدياً في بناء الأعمال الكلاسيكية. وينطبقُ ذلك الأسلوب على رواية “نداء البراري” عندما يتقيدُ المتلقي بمنظور الراوي العليم الذي يسردُ تفاصيل رحلة “باك” ويفهمُ من مفتتح الرواية بأنَّ بوادر حدث مهم تلوحُ في الأفق غير أن “باك” بما أنه لا يقرأُ الجرائدَ لذا لا يعلمُ شيئا عن ارتباط مصيرهِ بما سيقعُ إذ سيكون باك وكل كلب يعيشُ في منطقة المستنقعات الضحلة، ويتمتعُ بعضلات قوية على موعد مع مُغامرات ورحلات مضنية فإن لمعان المعدن الأصفر في القطب الشمالي قد دفع بعدد كبير من الرجال للإنخراط في مغامرة البحث عن الثروة والتنقيب عن الذهب وإحتاج هؤلاء الباحثون عن المعدن الأصفر إلى كلاب قوية تتحمل الحياة الجليدية.

ينتقلُ السردُ إلى “باك” بعد الإشارة إلى ما ينشرُ في الجرائد والكلام عن إستنفار الرجال للإنطلاق نحو أرض الأحلام فكان الكلبُ يعيشُ في منزل القاضي مللير ومضي سنوات عمره الأربع هناك بصحبة أفراد العائلة وحظي بحرية الحركة في أرجاء المنزل الكبير، وكان يتلاعبُ مع حفيدي القاضي.

لا يكتفي الراوي بوصف المنزل وموقعه ودور “باك” فيه بل يشيرُ إلى جنسه الهجين بين فصيلة سان برنارد من والده والكلب الراعي من أمه الأستكلندية إذ لم يكن كبير الحجم مثل “ألمو” غير أن ما عاشه من حياة منعمة قد أورثه الشعور بالإعتداد بالنفس كما أن وزنه الثقيل قد وضعه في منزلة خاصة، كل ذلك قد أكسبه الغرور، ضف إلى ما سبق فإنَّ “باك” لم يقتنع بأن دوره يضيقُ إلى حدود البيت إنما مارس الصيد ومصاحبة الرفاق في الرحلة وزادته السباحة رشاقة وخفةً هنا يتضحُ بأنَّ “باك” يتصدرُ المشهد الروائي إلى أن يتوقفُ السرد. أكثر من ذلك فإن الكلب الهجين مشارك في الأحداث المؤسسة لحلقات الحبكة الروائية.

الصفقة التي يسميها الراوي بالخيانة هي التي تغير مصير “باك” وتنتقل به نحو مجاهل عالم جليدي بينما كان صاحب المنزل منشغلاً بالحديث مع أعضاء رابطة منتجي الزبيب وتابع شباب المزرعة ممارسة اللعبة إقتاد مانويل المهووس بالقمار الكلب إلى محطة كولدج باك هناك يأخذُ المقامرُ مبلغاً مقابل “باك” الذي لم يتحرك ضد تصرفات مانويل بل اعتبر كل ما يحدثُ نزهةً برفقة أحد أفراد المنزل الكبير كما تعودَّ أن يثقَ بما يقومُ البشر مقتنعا بحكمتهم لذا لا يرفضُ إلتفاف الحبل برقبته غير أنَّ رؤيته لإنتقال الحبل إلى يد الغريب قد أثار غضبه وبدأ بزمجرة قد هربَّ السمسارُ الكلب، وعندما استفسر أحد الحراس عن صوت المعركة بين “باك” والرجل إدعي الأخير بأنَّ الكلب يعاني من نوبات عصبية يريدُ عرضه على طبيب كلاب ممتاز.

يحتدُ غضب “باك” كلما تأكد أنَّه لم يعدْ بين أصحابه وأصبح بعيداً من سانتا كلارا يمضي مدةً في الحانة ويكونُ المتلقي متابعاً للحوار المتبادل بين صاحب الحانة والسمسار وتوحي التلميحات بأنَّ سعر الكلب راح يرتفع أكثر ويستحق أثماناً باهظة، ومن ثمَّ يفردُ الكاتب مساحة لتصوير مرحلة الترويض ومقاومة “باك” فكان الصراع ضارياً بين الكلب والرجل ذي السترة الحمراء.

وهنا يحضر البعد المشهدي في السرد ويتموضعُ القاريءُ موقع المتفرج الأمر الذي يتكررُ في المقاطع  التي تتناولُ الصراع بين باك وغريمه ليسبتز للظفر بقيادة الزلاجة إذ يتخيلُ للمتلقي بأنهُ يتفرجُ على حلبة صراع المبارزين، وكلما بدا الإنهيار على باك أو غريمه تضيق دائرة الكلاب أكثر وفي هذه الحركة المشحونة بالتوتر إشارة إلى التحول في الموقف وترقب الكلاب على المقاتل المهزوم تفوق مؤلف “ناب أبيض” في إضفاء مزيد من التشويق إلى بنية الرواية من خلال هذه الوقفات المشهدية المبثوثة في جسد النص.

يقطعُ “باك” مسافات طويلة ويمر بمناطق كثيرة مدينة داوسون جبال “بيج سالمون” نهر “هوتالينكا” كما تنتقلُ ملكيته من شخص إلى آخر إذ يعيشُ لفترة عند رجل من أصل أسكولتندي في مدينة “داسون” وهو يختفي مثل غيره، وأخيرا يكون باك بعهدة شخصيات جديدة ميرسيديس وشالي وهال، ومن هنا يبدأُ فصل آخر من حياة الكلب ومن بين الشخصيات الثلاث تشفق المرأة وحدها على معاناة الكلاب التي تترنح تحت حمولة الزلاجة.

تتفاقمُ قساوة الأجواء مع نقص الطعام مما أدى إلى نفوق بعض الكلاب فكان داب أول من فارق الحياة مع تأزم الوضع تشتد عصبية أفراد طاقم الزلاجة والأهم في هذا الإطار هو عدم إطاعة باك لرغبة صاحبه بالإنطلاق نحو آلاسكا قبل ذلك قد سخر هال من تحذيرات جون ثورنتون من احتمال سقوط القاع الثلجي يعنفُ سائق الزلاجة الكلب غير أن باك لا يطيع إلى أن يهددُ ثورنتون هال بالقتل إذا لم يكف عن ضرب الكلب تقع الشخصيات الثلاث فريسة رخاوة طبقة الثلج، وما يسمع إلا صوت سقوط الزلاجة في حفرة وبذلك ينجوُ باك من الموت في الجليد ويعوضه ثورنتون عن غياب ميللر ويتعلق بسيده ويشهدُ نهايته المؤلمة عندما يقتله رجال من قبيلة بيهات.

يذكر أنَّ صوت الكاتب يندس في مفاصل الرواية ويستبطنُ الراوي دواخل الكلب وهواجسه فبالتالي يقتنعُ القاريءُ بما يسرده يقولُ الكاتب العراقي علي حسين بأن جاك لندن قد استقاد من تجارب حياته القاسية وإدراكه لجشع الرأسماليين في كتابة رواياته. زدْ على ذلك فإن بنية الرحلة التى تتواردُ في أعمالها هي امتداد لرحلات صاحب “العقب الحديدية” في البحار.

يشار إلى أن جاك لندن كان طالعاً من قاع المجتمع ذاق مرارة الفقر والفاقة توفي وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى