فوكو ضد النزعة الإنسانية
تعتبر النزعة الإنسانية اتجاها فكريا ظهرت معالمه في إيطاليا عصر النهضة، في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي، والعودة للوراء للفكر اليوناني مع الحركة السفسطائية نعثر على أفكار واضحة في الرفع من قيمة الإنسان، كما في تعريف الإنسان كأسمى الموجودات عندما قال بروتاغوراس “إن الإنسان مقياس كل شيء”، مقياس القول والفعل والمرجع الصائب في الخطاب الذي يتميز بالنسبية والمنفعة.
وفي عصر النهضة أصبح الإنسان سيد ذاته والمقرر لأفعاله، واختياراته نابعة من قناعات ذاتية، ولا وجود للحتميات أو القوى التي يمكنها إرغامه في شل إرادته الحرة، تحرير الإنسان من الخوف وجعله كائنا فوق كل الأشياء، هذه النزعة الإنسانية التي تثق في الإنسان وتعتبره كائنا فاعلا وصانعا للأشياء ومغيرا لأحوال وجوده، وهي ضد أخلاق الخنوع والتقاعس والشفقة، وضد استسلام الإنسان للقيود المكبلة للفعل والحرية. وعندما نرفع من قواعد الإنسانية فإننا نجعل الإنسان محور الأشياء، وكل الامكانات الموجودة في الطبيعة في صالح الإنسان، يكفي أن يقاوم الإنسان إغراءات الجمود ويتسلح بسلاح المعرفة، سيغير من الأشياء ويطبعها بطابعه الخاص.
عصر النهضة وهاجس تثقيف الإنسان وتنويره وتحريره من سلطة الكنيسة ورجالها، صورة النزعة الإنسانية لدى نقادها تفيد بدعوى خروجها عن الدين ما هي إلا دعوة مزيفة باعتبار المتدين يمكن أن يصير إنسانيا دون أن يفقد إيمانه، وهي نزعة لا تتعارض في جوهرها والغايات النبيلة للدين المسيحي الداعي للمحبة كما يقدمه القسيس دون عواطف الخنوع والاستسلام سوى إبراز قيمة الإنسان ككائن فاعل وليس منفعلا، بل حاولت النزعة الإنسانية في نسختها الأولى أن تجعل من الإنسان مقياسا للفعل، ولن يكون هذا الكائن مثاليا وخاليا من كل نزعة عدوانية أو ميل للشر أو نمنحه صكوك الغفران، الإنسان كما تفهمه الفلسفة حتى الأفلاطونية مركب من ثلاث قوى متباينة، من القوة العاقلة والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، وحتى الكائن العاقل الذي رسم معالمه ديكارت والفكر العقلاني لم يكن سوى ذلك الإنسان الذي اكتشف في ذاته نزعة قوية للتفكير وتغيير الأشياء في الطبيعة، جوهره التفكير. الكائن العقل والمفكر، الحر والمريد والمالك للإرادة والقدرة في تحويل الأشياء وتغييرها.
استمرت النزعة الإنسانية في العصر الحديث فجاءت هذه النزعة بفكرة مماثلة في سياق فلسفي يعيد الاعتبار للإنسان كذات وعقل وحرية، الإنسان هنا مالك للمعرفة، عاقل ومفكر، وصانع للأشياء ومغير لذاته والطبيعة، العقل الأداتي الديكارتي يكشف عن مبادئه وقواعده في إرغام الطبيعة وفي العودة من جديد للذات في مسح الطاولة والشك في الترسبات والقناعات السابقة، في فلسفة هيجل الإعلاء من صورة الكائن الإنساني كعقل ووعي وحرية، من الذاتي للموضوعي والمطلق واكتمال الفكرة وتعيينها في الواقع، وكل الآمال المعقودة على الإنسان تركت بصمة من التغيير للفكر فأصبحت الحداثة الغربية نموذجا يمكن تعميمه ونشره.
وفي الفلسفة الكانطية هناك كونية العقل البشري وحدوده في الوقت نفسه، والحدود التي يرسمها كانط في مجال المعرفة حتى يعمم مفاهيم العقل العملي، ويدرك الإنسان قيمة الواجب الأخلاقي، وقيمة الإرادة المشرعة للفعل الأخلاقي، الإنسان حسب كانط قادر على صناعة الحياة المشتركة وإرساء السلام العالمي، وتفعيل مقتضيات القانون الذاتي والوضعي معا، والذي يصب في مصحة الجميع، بل الإنسان مطالب أن يخرج من القصور المعرفي، ومن الجهل المستبطن في الأعماق نحو الحرية والتعبير، هذا الموجود العاقل الذي سترفعه فلسفة عصر الأنوار وتعمل على صيانته حتى أصبح قادرا عل الفعل والتغيير لما يملكه من مميزات: العقل والحرية، فلم تكن الأنوار سوى نشر نتائج العقلانية الغربية ونماذجها في السياسة والمجتمع والثقافة، تحرير العقل من سياح التقاليد والعادات والقيم البالية، وترسيخ فكرة لا حدود لها في قدرات العقل كما في سياق العقلانية الخاصة بهيجل، نزعة إنسانية انتهت إلى التعميم في إطار مواثيق وقوانين تصون كرامة الإنسان، وتعمل على خلق كائن بشروط المواطنة والحريات، وزاد من هيمنة النزعة الإنسانية في شكلها المتطرف، الوضعية العلمية وهيمنة النزعة العلمية في العلوم الإنسانية.
ومن هذا المنطلق هناك ذوات حاولت داخل سياج النزعة الإنسانية الكشف عن حدود الإنسان ونزوعه المضاد في قلب القيم، تلك لحظة المدنية الفاسدة والقوانين التي وضعت قيودا على الإنسان بعدما كان يعيش هادئا في حالة الطبيعة بحريته الكاملة غير المنقوصة كما في رأي روسو، والإنسان الذي كرس جهده لإبراز العقل وقدراته في الطبيعة لم يدرك حسب شوبنهاور أن الإرادة أقوى من العقل، وغياب التناسب بين الرغبات والإرادة يولد في الإنسان الشعور بالبؤس والحرمان، والشعور بالاغتراب الذي تولّد من المجتمع الصناعي وقوة الرأسمالية في تقسيم المجتمع إلى طبقة بورجوازية وطبقة عمالية سرعان ما ينتهي للصراع الطبقي وشعور العمال بالاستلاب وغياب الحرية حسب كارل ماركس، وتصبح النزعة الإنسانية من الماضي، الإنسان في الفكر التاريخي أو إنسان النزعة الإنسانية في العصر الحديث أو النسخة الأولى من عصر النهضة تبدو متجاوزة في الفكر البنيوي ومواقف بعض الفلاسفة في المرحلة المعاصرة، من كلود ليفي ستراوس إلى هيدغر وميشل فوكو. فكيف يمكن فهم فلسفة فوكو كفكر ضد النزعة الإنسانية؟ وما هو البديل عن النزعة الإنسانية؟ وهل في نقد النزعة الإنسانية الإعلان عن موت الإنسان واختفائه؟
في كتاب “الكلمات والأشياء” يقدم فوكو تحديدا مبسطا للإنسان باعتباره ذلك الكائن الذي يتكلم وينتج الأشياء، له وظائف وحاجيات، تتناوله مجموعة من العلوم بالتحليل والتشخيص كجسد ووحدة نفسية واجتماعية، ويحاول تشكيل وعي عن ذاته سيطلق عليها اسم “معرفة” التي ستتحول إلى معرفة بالإنسان، وهي العلوم الإنسانية، التي تعتبر بذاتها وليدة لحظة تاريخية ومجرد انعطاف في تاريخ المعرفة، تنتهي وتخلي المجال لمعرفة أخرى أقوى في التعبير أو التحليل للوجود الإنساني، وجد بذلك فوكو ولعا بالنسق الآتي من علم البيولوجيا، ومن علم اللسانيات العامة، فلم تعد المفاهيم الفلسفية القائمة أصلا على الحداثة والنزعة الإنسانية تصمد في الفكر المعاصر.
الإنسان كما يعرفه فوكو عمره لا يتجاوز مائة سنة، والمعرفة التي تشكل هذا الكائن تخضع لثنائية الاتصال والانفصال، شقوق المعرفة وتصدعها ما يؤسس للذات الابستيمية من جراء التغير في تاريخ الأفكار والواقع، يعني أن الإنسان محدد ببنيات، ليس فاعلا وليس صانعا، وموت الإنسان في البنيوية أصدق تعبير عن موت البنيات المتحكمة في مساره التاريخي، والآن بفضل التحولات التي طرأت على المعرفة وانزياحها، لم يعد الكائن الإنساني الذي رسمت معالمه النزعة الإنسانية وفلسفة الأنوار، لم يعد هناك تفاعل بشري، الأوهام التي حددها نيتشه في اللغة والعقل والراسخة في المنطق وفي تاريخ الفلسفة، تتجلى الآن في مرامي الخطاب، وسعي المجتمع نحو تكريس السلطة وربطها بالمعرفة والحقيقة، السلطة كما يشير فوكو ليست سوى إستراتيجية معقدة في وضع معين، والمعرفة التي نعتقد أننا على صواب في امتلاكها مجرد انعطاف تتلون وتتبدل بقناعات وإرهاصات العصر، حتى أن الإنسان يتغير من زمن لآخر، وما يحددنا ويخترقنا هو النسق.
ونعتقد أن فوكو ألغى النزعة الإنسانية، واعتبرها من الأوهام التي رسخها التاريخ، ويكشف عن تلك الجروح التي أصابت الذات الغربية بفعل آليات التأويل للمعرفة، من نيتشه في الجنيالوجيا واعتبار الحقائق مجرد أوهام نسينا أنها كذلك، وتأويل ماركس للتاريخ والمحدد المادي في العلاقات الإنسانية، والوحدة بين المال والسياسة في تحويل الإنسان إلى سلعة، وآلة في الإنتاج، والتحكم في دواليب المجتمع بعيدا عن النظريات المثالية في تاريخ الفلسفة، وبعيدا عن بؤس الفلسفة كما رسمها برودون وأعلام في علم الاجتماع الفرنسي، من أمثال دوركايم وسان سيمون وفلسفة هيجل المثالية، ومع فرويد في التحليل النفسي الذي أزال الحجب عن عمق الإنسان الدافع للفعل والسلوك، آليات العودة للحفر في ترسبات الماضي، والكشف عن ماضي الإنسان في طفولته، وتحليل سيكولوجية المريض في العلاقة بين الشعور واللاشعور.
فمن الواضح أن ميشيل فوكو لم يكن فيلسوفا نسقيا على الطريقة الديكارتية بل فيلسوفا يغرد خارج النسق المغلق، ويعيد الاعتبار للجسد والمنسي والمهمش، ويحاول الكشف عن الأجزاء الصغرى بناء على أداة مهمة وهي الاركيولوجيا، يعني الحفر في التاريخ وفي أشكال الخطاب والحقيقة التي نالت نصيبا من النبذ، ولم تكن النزعة الإنسانية متصلة بل كانت المعرفة وليدة لحظات معينة من التاريخ، والإنسان يظهر ويختفي تبعا للمعرفة التي تتحكم بكل مصيره، هناك اتصال وانفصال، موت الإنسان كما في الفكر البنيوي يعني اختفاء إنسان عصر النهضة وعصر الأنوار، وإنسان القرن التسع عشر، وميلاد الإنسان بقيم وثقافة أخرى، انبثق الإنسان في حقل المعرفة كموضوع جديد، هذا الإنسان الذي تحول إلى موضوع للمعرفة من قبل العلوم الإنسانية أو حتى الإنسان الذي تحول إلى ذات في الفلسفة لم يعد قائما وموجودا بفعل التحولات التي يشهدها الفكر مع ماضيه وحاضره، إنه محكوم ببنيات محددة التي تعمل على تطويعه وتليينه بالقوة الناعمة حتى يستجيب للفكر السائد، إنه عاجز عن انتشال ذاته من ركام الأوضاع ومن المعيش، يحتاج إلى طفرة أو تغيير في العلاقات الإنتاجية، وفي تفاعل الأنساق، حتى أن الإرغام لم يعد الآن بالقيود والسلاسل والسجون، وآلية العقاب القهري، بل أصبحت هناك آليات أخرى أشد سلطوية، وأشد نعومة وليونة من المراقبة والتتبع، وهي التحريض الإيجابي والاستيعاب الناعم واللطيف، وما يضمنه النظام الحالي في قوة الإشهار والإقناع والاستهلاك، السلطة التي تنتج أشكالا من الجماهير وأنواعا من العقول قادرة في ترسيخ أشكال من الحقيقة والمعرفة، لعبة تدار ويتم تحريكها من نقاط متعددة، قوى متصارعة ومتصالحة، شبكات من العلاقات المرئية واللامرئية.
من يدرك مرامي فوكو سيجد في فلسفته خليطا غير متجانس من الأفكار الخاصة بالبيولوجيا واللسانيات والتاريخ وعلم النفس، وهذا التأثير الواضح في الفكر الغربي من الوجودية والتحليل النفسي، إنه لا يقرأ ذاته لكي يسقطها على معالم التفكير السائد اليوم، منطلق أفكاره المنسي من القول والكتابة، ولع بالنسق يعني رؤية الإنسان في واقعه بعيدا عن الأشكال الاتصالية، والزحزحة التي يقول عنها هي انتقال الإنسان من عالم بقوانينه ومعالمه نحو عالم بديل تتجلى في طياته كل أشكال الانفصال، وآليات الخطاب الذي يروم التعميم والتوزيع وإعادة الإنتاج والهيمنة، خطاب يسري في عروق المؤسسات ويرتوي بالنوايا الواضحة والكامنة، ويكشف فوكو عن حدود الإنسان المحكوم سلفا بالبنيات والحتميات، وبالتالي فموت الإنسان في الفلسفة البنيوية ليس سوى نهاية إنسان العصور السابقة، وظهور إنسان آخر بمعرفة جديدة، هذا الإنسان لا يغير الأشياء من تلقاء ذاته، بل عوامل معينة من داخل البنية والنسق هي التي تساهم في آلية التغيير والتجديد ورسم حدود الإنسان وطرف تفكيره.
يقول فوكو: “إن النزعة الإنسانية هي أثقل ميراث انحدر إلينا من القرن التاسع عشر، وقد حان الأوان للتخلص منه، ومهمتنا الراهنة هي العمل على التحرر نهائيا من هذه النزعة”.
ميدل إيست أونلاين