في التجربة الناصرية… وظلالها على التجربة الشهابية
أعتقد بعدم صحّة أن تمرّ أيّ مناسبة تتعلّق بحياة أو مسيرة القائد جمال عبد الناصر، من غير أن نتوقّف ونتذكّر ونحلّل، سواء كانت هذه المناسبة بسيطة أو عادية كتاريخ ميلاده، الذي يصادف هذه الأيام، أو لاحقاً محطّاته التاريخية التي كان فيها نصر ونجاح، أو فشل وهزيمة. ففي المحطّات التاريخية الأولى، نأخذ العِبر بأهميّة الموقف الاستراتيحي وأسباب النصر والنجاح لتقويتها؛ وفي المحطّات الثانية، نأخذ العِبر في أسباب الفشل والهزيمة لتجنُّبها لاحقاً. فقد كان هذا القائد، في الواقع، حاملاً الهمّ الاستراتيجي الصحيح للمنطقة العربية ولإفريقيا وللعالم الذي يسعى إلى التحرُّر من الاستعمار الغربي الأميركي والأوروبي، كما كان، انسجاماً مع استراتيجيته هذه، يتصرّف على أساس أن القضيّة الفلسطينية ومقاومة الكيان الإسرائيلي والصهيونية هي القضيّة المركزيّة لمصر والمنطقة العربية من أجل التحرُّر والنهضة الحقيقية والسيادة والتنمية والتوحُّد، وما ذلك إلّا لأنه يقابلها عند العالم الغربي المستعمِر، قضيّة مركزية هي القضيّة الإسرائيلية والصهيونية.
بدأ عبد الناصر ثورته داخلياً، فألغى الإقطاع المزمن في مصر، وجعل التعليم المدرسي والجامعي شاملاً للجميع ومجانيّاً، وأَرجع حقّ الشعب المصري في ملكيّة قناة السويس، وعزّز القطاعَين الصناعي والزراعي. وفي الوقت ذاته، انتقل إلى دعْم الثورة الجزائرية في مقاومتها التحرريّة للاستعمار الفرنسي الاستيطاني، وتحمّل نتيجة كل مبادراته الثورية هذه، العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي في عام 1956. ومن مبادراته الثورية، أنه كان أوّل مَن انفتح على الشرق وكسر احتكار استيراد السلاح من الغرب، في حين كان الانفتاح على الشرق، المتمثّل في حينه بالاتحاد السوفياتي، يُعدّ جريمة من قِبَل الغرب وبعض الأنظمة أو الجماعات التي تحمل شعارات إسلامية. وكان الغرض من تجريم هذا الانفتاح، بتهمة الشيوعية والإلحاد، هو تمكين الاستعمار الغربي بنا وتقوية قواعده عندنا.
ولا ننسى أنه خاض حرباً كونيّة لإنشاء السدّ العالي، ونجح في تجنُّب الابتزاز الأميركي في قضايا السيادة الوطنية والقومية. أما أثناء الوحدة بين مصر وسوريا، فقد قام بتغيير وتعديل قوانين معيّنة في سوريا لمصلحة تخفيف الإقطاعية والعشائرية. وثم بالنسبة إلى لبنان وسوريا، وكان وقتها الإقليم الشمالي في الجمهورية العربية المتحدة، والأردن هو المبادِر في دعْم الخطط المائية ضدّ الأطماع الإسرائيلية في إكمال الاستيلاء على مياه أنهار اليرموك والحاصباتي والوزاني والأردن. ومن هنا، كان الموقف الفنّي والعلمي والقوي والشجاع للمهندس اللبناني الكبير والاستثنائي، إبراهيم عبد العال، ضدّ مشروع جونستون الأميركي، مع الإشارة إلى أنه، بسبب موقفه الأصيل هذا، اغتيل في عام 1959 في المستشفى، تحت عذْر خطأ طبي بإعطائه دماً من فئة غير فئته وأُغلق ملفّ التحقيق.
وأيضاً بالنسبة إلى لبنان، قدّم عبد الناصر دعماً غير محدود ماديّاً وأكاديميّاً وسياسيّاً، لإنشاء جامعة كبرى فيها كل الاختصاصات، بحيث لأوّل مرّة، أي بسنوات عدّة قبل تثبيت وإغناء الجامعة الوطنية اللبنانية بالاختصاصات، كسر احتكار التعليم الجامعي في لبنان الذي كان محصوراً في جامعتَين فرنسية وأميركية. فكانت جامعة بيروت العربية، وهذه التسمية هي بتوجيه من الرئيس جمال عبد الناصر نفسه، إذ رفض العرض بأن تُسمّى باسمه، ولا يمكن أن يتعامى أيّ عاقل عن التطوّر الكبير العلمي والاجتماعي والاقتصادي ثم السياسي الذي حصل نتيجة إنشاء هذه الجامعة في بنيان المجتمع اللبناني، وخاصة عند طبقات كبيرة وفي مناطق لبنانية مختلفة وواسعة.
وثم حين يتغنّى اللبنانيون بمرحلة فؤاد شهاب التأسيسيّة لإدارة الدولة اللبنانية، ومنها المراسيم الاشتراعية الأولى، وعددها 160، والتي كان من بعض أغراضها ربْط اللبناني بمؤسّسات الدولة بشكل مباشر وليس من خلال الإقطاع الاجتماعي أو الطوائفي أو المراجع الروحية الطائفية، وأيضاً حين يتغنّى اللبنانيبون بتلك المرحلة الشهابية بسبب إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية، وإنشاء «الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي»، وتعاونية الموظفين والمدرّسين والأساتذة، وإنشاء المدارس والمهنيات ومعاهد إعداد المعلّمين، وأيضاً تنمية المناطق وإيصال الماء والكهرباء والطرق إليها، علينا، في الوقت ذاته، أن نعرف ونعترف بقوّة الهزات الارتدادية التي حصلت في المنطقة من جرّاء الموجات الناصرية التغييرية الثورية، بحيث كان لها الدور الخفيّ في وصول اللواء فؤاد شهاب إلى سدّة الرئاسة. فلولا عبد الناصر، لَما سقط في حينه «حلف بغداد»، وهو حلف بغداد – أنقرة – إيران في عهد شاهها، ولَما جاء اللواء فؤاد شهاب رئيساً للبلاد نتيجة توافق أميركي ممثّلاً بسفيرها روبرت مورفي والرئيس جمال عبد الناصر، ولكان الرئيس كميل شمعون قد جدَّد لنفسه في عام 1958 ودخل في هذا الحلف من خلال مجلس نيابي كان قد أعدّه قبل سنة لهذا الغرض حين سقطت في إعداده انتخابيّاً شخصيات سياسية مهمّة، منها: كمال جنبلاط وصائب سلام وعبد الله اليافي وأحمد الأسعد، وحتى إني أقول إنه لولا الهدنة الأميركية – الناصرية، في عام 1958، نتيجة سقوط «حلف بغداد» ووجود الوحدة بين مصر وسوريا، لَما تمكّن الرئيس فؤاد شهاب من الشعور بالهدوء والأمان للقيام بخططه المؤسّساتية والاجتماعية. وهناك أدلّة كثيرة على هذه الحقيقة، ومنها أن محاولة الانقلاب العسكري والحزبي – المدعوم من جهات معيّنة – الذي حصل عند رأس السنة 1961/1962، قد حصل بعد ثلاثة أشهر من فكّ الوحدة بين مصر وسوريا في أيلول 1961، وهذا هو التاريخ المفصليّ في انتهاء الهدنة الأميركية – الناصرية التي ذكرنا أعلاه. وفي الحقيقة، فإن الرئيس فؤاد شهاب، بعد هذه اللحظة التاريخية وحتى نهاية عهده في عام 1964، ليس هو الرئيس شهاب الذي كانه قبلاً، والأدلّة على هذه الحقيقة كثيرة، ومنها أنه لم يستطع، بعدها، أن يقرّ في مجلس الوزراء الخطّة الخماسية للتنمية الشاملة والمنسّقة والمتوازنة التي سبق أن جهّزتها في تلك المرحلة بعثة «ايرفد» التي سبق واستقدمها شهاب برئاسة الأب الدومينيكاني الكاثوليكي لوبريه، وهنا أترك للخيال أو للفكر السياسي على المستوى اللبناني أن يحلّل ما المغزى السياسي والاستراتيجي لدى الرئيس فؤاد شهاب لاستقدام مثل هذه البعثة، ومثل رئيسها الأب الكاثوليكي.
وبعد عرْض ما تقدَّم من انعكاسات إيجابية للحالة الناصرية، لا بد من استكمال عرض الدورة التاريخية، من أجل الموضوعية، بذكْر وقائع الفشل والهزيمة، إذ في ذلك أيضاً الكثير من العِبر والدروس للنهوض مجدّداً، وعليه، يقتضي ذكْر هزيمة حزيران عام 1967، والتي هي ليست فقط هزيمة للحالة الناصرية بل هزيمة للمنطقة كلّها وللعالم الثالث، كما كان من المعتاد أن يسمّى في حينه. وهنا، يجب عدم الغضب والتمرّد السلبي ونكران الاستراتيحية التاريخية والإنسانية الصحيحة، أي يجب عدم الوصول إلى مرحلة إنكار هذه الاستراتيجية والانحراف عنها. ففي التاريخ العالمي الكثير من هذه الأحداث، وفي تاريخنا أيضاً منها الكثير، وبشريط تاريخي سريع ورمزي، نذكر الواقعة التاريخية المفصليّة بصلب السيد المسيح وبقاء المسيحية وازدهارها؛ وغزوة الإمبراطورية الحبشية لكعبة العرب وذلك قبل الإسلام، وبقاء الكعبة التي صارت كعبة العرب والمسلمين كافة؛ وما حدث في صدر الإسلام كهزيمة معركة جبل أُحد بعد معركة بدر التي كان فيها نجاح، مع العلم أن حياة الرسول في هزيمة جبل أُحد كانت في خطر حقيقي، ومن المفيد أيضاً أن نذكر شهادة سيد الشهداء سبط الرسول، وبقاء الرسالة، وتستمرّ الأمثلة وهي عديدة. وفي العصر الحديث نسبيّاً، تجربة محمد علي الكبير في مصر في بدايات القرن الثامن عشر، وثم التجربة الناصرية… إلخ.
ويبقى المهمّ عدم نكران الصحيح والانحراف عنه. مع الإشارة مجدّداً إلى أن هزيمة عام 1967 كانت مليئة بالدروس والعِبر لمعرفة نقاط الضعف فينا ولمعرفة الأعداء والخصوم في الداخل وفي الخارج وفي منطقتنا، فحركة التاريخ تستمرّ وتنهض وفق وعينا وعملنا. وهنا، من المفيد أن نذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر قام، بعد هذه الهزيمة، بإعادة بناء الجيش بعناصره وتجهيزاته وخططه، ومنها أن عناصر هذا الجيش الجديد باتت تختلف في العلم والمعرفة والإعداد عمّا كانت عليه في عام 1967، فالأجيال تعلّمت في المدارس والجامعات وفق الخطة الناصرية التي كانت قد بدأت قبل حين بجعل التعليم على كل المستويات شاملاً ومجانياً، تلك الأجيال كانت عماد الجيش الجديد.
إنّما الرئيس أنور السادات، في حرب أكتوبر عام 1973، بالاشتراك مع الجيش العربي السوري بعهد الرئيس حافظ الأسد، حوّل هذه الحرب من حرب تحرير إلى حرب تحريك، وأن 99% من الأوراق هي في يد الولايات المتحدة والغرب، وتلك العبارات هي للرئيس السادات نفسه. والنتائج المأسوية لهذا التغيير السلبي صارت الآن مجسّدة في حياتنا ومعيشتنا وانحدارنا وبؤسنا وأمننا وضعفنا وتشرذمنا وتفكّكنا وكثرة شهدائنا.
وفي الختام، نعود إلى القول إنه في القضايا المركزية وفق الاستراتيجية التاريخية والإنسانية الصحيحة والسليمة، يجب أن نركّز عليها ولا ننكرها أو ننحرف عنها، وبالتالي يجب أن تتراجع إلى الوراء كل الاختلافات السياسية والعقائدية عند كل القوى القومية والإسلامية واليسارية، كما علينا أن نذكر ونستعيد ونتكلّم عن كل محطّاتنا التاريخية، سواء الناجح منها أو الفاشل، وندرسها ونحلّلها ونأخذ العِبر من عمق التجارب لتحصين النجاح وتجنّب الفشل، ومنها في عصرنا الحديث تجربة القائد جمال عبد الناصر، ومنها في لبنان ما لحق بها أو تأثّر بها وأقصد تجربة الرئيس فؤاد شهاب.
صحيفة الأخبار اللبنانية