في ذكرى البياتي .. الشعراء يستعيرون الاقنعة كثيرا ( علي حسن الفواز)

 

 علي حسن الفواز


الكتابة عن اسئلة الحداثة في الشعر العراقي تعني بالضرورة الكتابة عن تاريخية هذا المشروع، وعن الخطوات المغامرة، والاحلام المغامرة، واحسب ان المشروع التحديثي للشاعر عبدالوهاب البياتي يحضر في هذا السياق بوصفه ظاهرة وانجازا ورؤية استغرقت فاعلية الكتابة، وتأثرت بمعطياتها وتحولاتها، اذ كان هذا الشاعر يحمل ارهاصات المغامر، حاضرا في جوهر السؤال الشعري، في انزياحه في اباحته وفي هوس مغامرته، او حتى في نزوعها للتجديد والتمرد والخروج على سرائر صناديق العائلة الشعرية، مثلما هو حاضر ايضا في صناعة موجهاتها وظواهرها التي اثرت العقل الشعري العربي وفتحت امامه افاقا لرسم طريق آخر للحرير الشعري، الذي هو طريق المغامرات والثوار والصعاليك واصحاب الفؤوس التي اطاحت برأس الطلل الذهني واللساني والصوري.
لقد شكل البياتي مع السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري ظاهرة تجديدية في الكتابة في وعي الصناعة الشعرية، اذ ان مفهوم الريادة المطلق سيكون غائما ازاء حقيقة المنجز الشعري، لان معطى التحول يعني حيازة القدرة على التجاوز، والتمكين من انجاز وعي هذا التجاوز ورؤيته، وتقعيده، اذ تحول التجاوز الى فعالية لصناعة (فضاء شعري) تتعانق فيه منظورات التاريخ، مع حقوق الخروج على وصاياه، مثلما تنحلّ فيه الكثير من (العقد) التي ربطت القصيدة الانثى بفحولة العمود الذكر.
هذا المنظور فتح آفاقا للرؤية، وللرؤيا، على مستوى الاشتغالات البنائية في القصيدة، وعلى مستوى القيمة الثيمية واغراضها، وعلى مستوى استشراف حلم القصيدة، وسيولتها في مجرى اللغة والوعي والوجود، اذ استهلمت – تحت شرعنة التجاوز- كل حيثيات مظاهر التجديد، وأسبغت على القصيدة توسيمات اكثر جرأة، واكثر نزوعا لفك التباسات نمط الكتابة المغلقة، واباحة (روحها الحية) لتكون مولدة، وفاعلة في توسيع منظر التجديد، من منطلق ان القصيدة بنية حية، وانها فضاء اسلوبي تتفاعل فيه مؤثرات الصورة والفكرة والمعنى والدلالة والاستعارة، ومن منطلق ان الكتابة التجديدية هي نزوع في وعي الحرية، حرية المواجهة، وحرية الذي اعطى لبنياتها الصوتية والعروضية حرية اعمق، فكانت القصيدة الجديدة بقطع النظر عن تسمياتها مثالا للجدة في النظر الى القصيدة العربية.
البياتي منذ مجموعتيه (ملائكة وشياطين 1950، واباريق مهشمة 1954) اثار الانتباه الى جدّة مشروعه الشعري وتميز صوته الجديد، فهو لم ينزع الى التقليد والمباشرة الفجة، اذ حفلت القصيدة بتشكلات انفتحت فيها الجملة الشعرية على مستويات ادركت اهمية التغيير وكسر الايهام الشعري الذي اعتادته القصيدة، وهذا النزوع لم يكن خارج غواية الوعي، والتماس ما تكشفه الرؤيا من عوالم ومرئيات.
لقد شكل البياتي نموذجا في سياقات التجديد الشعري، على مستوى الجملة والصورة، وعلى مستوى الأفكار والأشعار، فضلا عن حضوره المميز في سياق تشكّل ماسمي بـ ظاهرة الريادة الشعرية، اذ البياتي صانعا لصوت شعري، مثلما هو صانع لكارزما شعرية زاوجت بين الحضور وفعالية الايديولوجيا، خاصة تلك التي تحولت الى مجال سسيوثقافي للقصيدة الجديدة، ولأسماء مؤسسين مثل السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري، وكذلك من خلال ما اجترحه من اشكال عدّها البعض بانها (المجال الذي كرس القصيدة الحديثة القصيرة التي تعتمد نظام التفعيلة الواحدة، وفي مجال المضمون، كان له الفضل الأكبر في إدخال الرمز والأسطورة الشرقيين إلى الشعر العربي الحديث، حيث عشتار وتموز يشكلان نسغ هذه القصيدة) وبهذا يكون البياتي قد اعطى لظاهرة القصيدة الجديدة قوة جمالية وتركيبية اسهمت في اغناء تاريخها وحضورها، والهبت حماس اجيال كثيرة من الشعراء الذين وجدوا في المغامرة تعبيرا عن عمق التحولات الانطولوجية الحادثة في جسد القصيدة العربية.
ولعل مجموعاته الشعرية اللاحقة التي بدأت منذ عام 1956 اذ اصدر مجموعتين شعريتين هما: رسالة إلى ناظم حكمت والمجد للأطفال والزيتون، واتبعهما في العام التالي 1957 بديوان آخر هو "أشعار في المنفى" وكتابه الشعري "عشرون قصيدة من برلين" عام 1959 الذي اختتم به رحلة الخمسينيات. تمثل وجها اخر للتحول الصاخب في حياة البياتي الشعرية والانسانية خاصة ديوانه (اباريق مهشمة) الذي عدّ نقلة تحول مهمة في الشعر العراقي، والتي عدّها البعض من النقاد خاصة احسان عباس ونهاد التكرلي بانها من العلامات الاساسية في الحداثة الشعرية العربية.
ولعل نزوع البياتي في مراحل لاحقة الى تمثل قيم الثورات الاجتماعية التي بشرت بها قوى اليسار الجديد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تعدّ جزءا من تحولات الوعي والموقف، فهو اكتشف عمق ما تحوزه الثورة الانسانية الاجتماعية من قيم حقيقية فيها الكثير من الجمال والرومانسية والبطولة، فضلا عما تحوزه من رموز فاعلة تعطي لهذه القيم قوة اخلاقية وجمالية واندفاعا يضع القصيدة بمستوى الرسالة او الشهادة، وهذا ليس تمثلا للاتجاهات الواقعية ذات النزوع اليساري والتي عدّها البعض نكوصا في تجربة البياتي، وتماهيا مع انماط الكتابة الشعرية التي استأثرت بالنزوع الخطابي الايديولوجي المباشر على حساب القيم الشعرية ومستويات فنيتها.
كل هذا الحديث بقطع النظر عن دقته او مغالاته لا يعني التقليل من شأن البياتي كشخصية فاعلة ومؤثرة في تاريخ الشعر العربي وتحولاته المعاصرة، اذ استطاع خلال سنواته ان يكون واحدا من العلامات المهمة في التجديد، وفي استخدام تقنيات لم تكن مألوفة في شعريتنا العربية ومنها تقنية القناع والتي تعد وسيلة فنية لجأ اليها الشعراء للتورية والتقية في مواجهة مهيمنات السلطة الاجتماعية والسياسية فضلا عن التعبير عن شفرات معينة داخل التجربة الشعرية، ناهيك عن اثرها الوظائفي في الحد من هيمنة الغنائية المفرطة التي ألفتها الشعرية، واعطاء البنيات الصوتية والدرامية قيمة حضورية يمكن ان تسبغ على صوت الشاعر وصوت قناعه قيمة جمالية واستعارية اكثر فاعلية واشراقا، واعتقد ان الاقنعة التي عمد اليها البياتي خاصة اقنعة ابن عربي والحلاج والمعري وابن الفارض والشبلي اثرت القصيدة البياتية واغنت مسارتها، وعدت تقنية القناع من اكثر التقنيات التي تمكن البياتي من تخصيبها في الشعر العربي وتأكيد حضورها كعلامة للتجديد البنائي في سياق تحولات القصيدة.
انطلق البياتي في كتابته ليس للتعبير عن خلاص شخصي ورغبة في النزوع الى المغامرة التي اكتنفت جيل من الشعراء، بقدر ما كانت جزءا من مواجهة مباشرة ازاء عالم جاحد، يتحول فيه الشعر الى سلاح رمزي يتمثل الى كل ما تحوزه القوة الاخلاقية، وعبر ما تحمله اقنعته من بشائر للثورة، تلك التي يغدو فيها صوت الشاعر وهاجسه، الشاعر المشرد القتيل – العائد هو صوت الانسان الثائر.
تقنية "القناع" التي انضجها البياتي في اعماله الشعرية وفي اختيار ما تمثله من رموز للثورة والاحتجاج والشهادة في تاريخنا العربي، تحولت في سياق هذه الرؤى الى وسائل لتحقيق انتماء الشاعر الى فضاء عارم من الانسانية، وقد قال احد النقاد ان مرحلة البياتي في "سفر الفقر والثورة" (1965)، تمثل استشرافا عميق الحلول من خلال تلبس الشاعر لقناع الحلاج، اذ قدّم عبر هذه المغامرة تجربته الروحية في التجلي والشهادة، وفي مقابلها قدم تجربة المعري الفكرية، وفي قصيدة "السفر" قدم رؤيا شاعر معاصر عن الحياة الحديثة، وختم بالمهرج.
لقد تجلت سمات ما هو رمزي في كتابات البياتي من خلال تجلياته الصوفية وحلوله في رموزه الاثيرة والتي هي جوهرها تحمل قوة نقدية لعوامل الظلم والاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي، وقد يجد البعض ان استخدام البياتي لنموذج المهرج يعد من اكثر الوظائف التي حملت شفرة وعي الشاعر للعوالم السفلي تلك التي تمور بالقهر، والتي يمثل المهرج صوتها النقدي الماحي والساخط.
واليوم اذ نستعيد ذكرى البياتي فاننا اكثر حاجة لقراءة ملفات شعريتنا العربية في سياق قراءة تحولاتها منذ نهاية الاربعينيات والى اليوم، من اجل استقراء الخواص الفنية والاسلوبية التي اقترنت بهذه التحولات وشكلت العلامات الرئيسية في سياقاتها التجديدية، لان تهميش هذه القراءة، وتغييب ما حملته من علامات هو تكريس للعشوائيات النقدية التي روج لها البعض او ربما تحولت الى ادعاء مغال فيه، خاصة اولئك الذين يتحدون عن طفرات (جينية) في الاجيال الشعرية والمظاهر الشعرية، وان هذا الجيل لا آباء له، وان الرواد لا يعدون ان يكونوا جزءا من النسق القديم الذي اقفلت ابوابه وما عادوا الاّ سكانا للاثر والمتحف الشعريين.
في ذكرى عبد الوهاب البياتي نستعيد قوة المغامرة، ونستعيد قوة الانسان ومشروعه في صناعة البطولة والحلم، ونستعيد كذلك أثر القصيدة الجديدة التي تحولت رغم كل الحروب الثانوية الى ظاهرة حقيقية كرست نفسها في الذائقة والوجود والدرس والخطاب واليوميات المفتوحة على احتمالات لا تنتهي.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى