في كواليس الشرق الأدنى (6) تفــكـيـــك «الــناصــريــة» هل كان السادات أيقونة السلام أم نموذجاً للخيانة؟ (اريك رولو)
اريك رولو
ترجمة د. داليا سعودي
هل كان أنور السادات أيقونةً للسلام، أم كان أنموذجاً للخيانة؟
لم يكن هذا ولا ذاك حين التقيتُه أول مرة في بداية الستينيات، قبل عشرة أعوام من توليه رئاسة الجمهورية. اعتقدتُ وقتها أني كنتُ أعرفه جيداً، إذ كنتُ قد قرأتُ مذكراته المنشورة عام 1957، وهي الأولى في سلسلة من نصوصٍ يستعرض فيها سيرته الذاتية. تحت عنوان متكلف هو «يا ولدي، هذا عمك جمال»، مزج ذلك الكتيب بين التقريظ البالغ للرئيس جمال عبد الناصر وبين تباهي الكاتب بمفاخر مسيرته الخاصة.
كان التبجيل الذي لم ينقطع السادات عن إظهاره لشخص زعيم الثورة، بما فيه من مبالغات، يتساوى في السُّخف مع ما قدَّمَه في كتابه ضمن مآثر حياته الخاصة. فهو يعترف فيه بإعجابه في سنوات شبابه بكل من موسوليني وهتلر اللذين مَثَّل وصولُهما للحكمِ بالنسبةِ له نموذجاً لما يمكن أن تكونَ عليه «الثورة» في مصر. وقد عزا الفشل الذي مُنِي به كلا الديكتاتوريين في النهاية إلى «انحرافات» تافهة ومؤسفة واعتيادية.
ويعترف بأنه كان يتمنى أن يسمح غزو القوات الألمانية لمصر عام 1942 بتحرير مصر من الاحتلال البريطاني.
وفي سيرته الذاتية الأخيرة المنشورة بعد ذلك بعشرين سنة، «كشف» السادات عن سرٍّ لم يكن خافياً على أحد: إذ كان قد اعتُقل وشُطب من الجيش لأنه كان عميلاً استخباراتياً لبرلين. فبينما كانت دبابات القوات الألمانية تتقدم سراعاً صوب أبواب الاسكندرية في صيف عام 1942، حاول هو أن يتصل بالقائد الأعلى للجيش الألماني المارشال»روميل» Rommel. إذ كان راغباً ـ كما يروي ـ في تزويده بمعلوماتٍ مدعمة بالصور عن مواقع تمركز الوحدات البريطانية المكلَّفة بمقاومة الغزو. وفي المقابل، كان يأمل أن تضمن ألمانيا استقلال مصر وسيادتها. بيد أن الطائرة التي حملت المبعوث المكلَّف من قِبله لتسليم الصور و«مشروع معاهدة» (ليس أقل!) إلى المرسَل إليه، قد أُسقطت عن طريق الخطأ، بواسطة مدافع المارشال روميل المضادة للطائرات. لكن ذاك الفشل قد لقي بحسبه «عوضاً من السماء» ؛ إذ طلبَ مقابلتَه ضابطان ألمانيَّان ينتميان إلى أجهزة الاستخبارات النازية، وعرضا عليه العمل لحسابهما، وهو ما قَبِله بسعادة وحبور. هكذا كتب السادات في مذكراته بلا حياء، بينما هو قادمٌ لتوِّه من رحلته إلى القدس «من أجل السلام».
في سبتمبر (أيلول) 1953، سرت شائعةٌ مفادها أن هتلر لا يزال على قيد الحياة بعد انتهاء الحرب. فدعت مجلة «المصور» سبع شخصيات عامة لكتابة الرسالة التي قد يبعث بها إلى الفوهرر السابق لو صحت المعلومة. وقد احتفظتُ في ملفاتي الخاصة بالنصوص المنشورة. وكان النص الذي كتبه السادات هو الوحيد الذي يتوجه بالتحية إلى منجزات الديكتاتور النازي، داعياً إياه إلى إعادة إرساء مجد ألمانيا وإقرار السلام في العالم. وقد ختم رسالته بأنه يتعين على الألمان أن «يتيهوا فخراً» بـ«خلود» زعيمهم. كما لم يكن السادات يخفي معاداته للسامية. فهو لا يذكر المحرقة، ولا اضطهاد اليهود، في أيٍّ من كتاباته، على كثرتها. وفي كتيبه الأول عن سيرته الذاتية، السالف ذكره، نجده يستعيد على عهدته الاتهام الذهاني الذي يشهره مناهضو السامية حول «سيطرة اليهود في الولايات المتحدة على الصحافة، والإذاعة، والمال، والسينما، وكل ما له تأثير على الناس». كما أنهم، منذ عهد النبي محمد، يمثلون «شعباً حقيراً، وضيعاً، خوَّاناً، غداراً»، كما صرح في أبريل عام 1972، على أثر رفض إسرائيل إعادة سيناء المحتلة إلى مصر.
فرَّ السادات من المعتقل في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1944، وعاش مدة عامٍ كـــاملٍ منتحلاً هوية مزيـــفة، قبل أن يستعيد كامل حريته، على أثر انتـــهاء الحرب العالمية الثانية، كسائر مؤيدي المحور أجمعين. وقد شهدت حياته المهنية كـ«مناضل وطني» توجهاً جديداً، إذ حلَّ محـــلَّ الجاسوسِ الموالي للألمان الإرهابيُّ المحترف. إذ ظن نفسه مساهـــماً في الكـــفاح ضد الإمبريالية بالتخطيط لنسف السفارة البريطانية بالديناميت، وبتنـــظيم عمليات اعتداء ضد الجنود الإنكليز وضـــد «أعوان» المحتــــلِّ من المصريين. هكـــذا نجا مصــطفى النحاس باشا، رئــيس حزب الوفد ورئيس الوزراء الأسبق، بأعجوبة من محاولتَي اغتيال.
أما الوزير السابق، أمين باشا عثمان، فقد كان أقل حظاً، إذ تم قتله، وعلى اثر ذلك، اعتُقل السادات واتُهِم بالقتل وبالشروع في عمليات اغتيال. وقد انتهت المحاكمة الهزلية بالإفراج عنه بعد ثلاثين شهراً، في أغسطس (آب) 1948، رغم البراهين الدامغة على إدانته. أما المتهم الرئيسي، الذي فرَّ بعد الإدلاء باعترافات كاملة، فتم الحكم عليه غيابياً بالسجن لمدة عشر سنوات، لكنه لم ينفذ تلك العقوبة.
تبين في وقت لاحق أن أعضاء جماعة الكوماندوز التي ينتمي إليها السادات كانت ترتكب جرائمها لحساب الملك فاروق الذي كان يتخلص بهذه الطريقة من خصومه السياسيين. ويرجح أن القصر الملكي قد تدخل سراً، بدايةً كي يضمن معاملة حسنة للمتهمين داخل السجن، ثم ليحميهم من أحكام تقضي بعقوبات شديدة. إضافةً إلى ذلك، أولت الصحافة، التي يسيطر البلاط الملكي عليها، مساندتها للمتهمين طوال فترة حبسهم، بالإشادة بروح «البطولة» التي تَحَلَّوا بها. وبعد ثلاثين عاماً، حين صار السادات رئيساً، حرص على أن يعبر عن امتنانه لرئيس المحكمة التي برّأته بتقليده أرفع وسام في جمهورية مصر العربية. حتى وإن لم يكن السعي وراء الكسب غائباً عن مسلك السادات، فلا شك في صدق المعتقدات التي دفعته للانخراط في «الحرس الحديدي»، ذلك التنظيم السري المكلَّف بالأعمال القذرة من قِبل الملك. إذ كان السادات مناصراً متحمساً للملك فاروق، حيـــث كان يعتبره إنـــساناً وطنياً، وحاكـــماً مقاوماً للاحتلال الأجنبي، وذلك لعدة أسباب، منها أنه كان مثله مؤيداً لانتصار المحور، بينما أيَّد حزب الوفد وزعماؤه معسكرَ الحلفاء.
كان السادات إذاً يتصرف وفقاً لإملاءات ضميره، حتى وإن كان يلقى جزاء ذلك أجراً سخياً. كان عرَّابه وصديقه هو قائد «الحرس الحديدي»، الدكتور يوسف رشاد، الذي كان أيضاً طبيب الملك الشخصي وكاتم أسراره، وكان، فضلاً عن ذلك، رئيس أجهزة مخابراته. وفي إجراء غير مسبوق، أعاد هذا الأخير السادات إلى صفوف الجيش، عام 1950، رغم سوابقه غير المجيدة، ليحتل أولاً رتبة نقيب، ثم رتبة مقدّم بعد ذلك بفترة وجيزة.
في العام التالي، قام السادات بحيلة شرَّعت أمامه أبوابَ دربٍ مهنيٍّ جديدٍ، سيقوده لاحقاً إلى رئاسة الجمهورية. فقد أخبر جمال عبد الناصر – الذي كان يعرفه منذ سنوات عديدة – بأنه على علاقة وطيدة بكاتم أسرار الملك، وهو ما سيتيح له الانبراء لخدمة «الضباط الأحرار»، ذلك التنظيم السري الذي يتزعمه من صار قائد الثورة في ما بعد.
لكنه حرص على ألا يخبر ناصر بانتمائه «للحرس الحديدي». فطلب منه عبد الناصر تزويده بالمعلومات حول الملك، ونشاطاته، ومشاريعه، وفي مقابل ذلك، سمح له بتزويد يوسف رشاد بمعلومات مضلِلة حول المؤامرة التي تحاك داخل الجيش، وهو ما فعله هو مع التقليل من شأنها.
فلمَّا نال السادات الرضا، طلب إلى ناصر في مطلع 1952 – أي قبل ستة أشهر من الانقلاب ـ أن يضمَّه إلى مجلس قيادة «الضباط الأحرار»، مشيراً إلى أن تلك هي رغبة كاتم أسرار الملك، ولا نعلم أصادقاً كان في ذلك أم كاذباً. وإذ حسب ناصر أن ذلك الإجراء سيعزز من مصداقية عميله، عرض على رفاقه ترشيح السادات من دون أن يخبرهم بالخدمات التي يسديها هذا الأخير إليه. وإذ ساورتهم الريبة رغم كل شيء، عارضوا انضمامه، ثم ما لبثوا أن قبلوا اقتراح زعيمهم على مضض. وفيما قد يكون نتيجة محتملة لحل وسط، لن يُدعى السادات سوى نادراً للمشاركة في اجتماعات مجلس القيادة.
ولن تكتمل الحكاية لو لم نذكر الدور – أو بالأحرى انعدام الدور ـ الذي كان لرئيس المستقبل في انقلاب الضباط الأحرار. ففي سيرته الذاتية، يدَّعي أنه كان «شاهداً محبطاً» على الثورة، لكونه قد «فات(ـه) أجمل يوم في حيات(ـه)»، لكنه لا يذكر أن اختفاءه ليلتها كان فعلاً متعمداً. وقد تبيَّن لاحقاً أنه امتنع عن المشاركة في العملية خشية أن يؤدي فشلها إلى معاقبته عقوبة شديدة القسوة، تساوي تهمة «الخيانة» التي لن يني مستخدموه في القصر أن يلصقوها به.
مرة أخرى، كانت الحيلة التي لجأ إليها سبباً في خداع زملائه. ففي الليلة ذاتها التي تم فيها الانقلاب، ذهب هو إلى السينما بصحبة زوجته، وحضر عرض ثلاثة أفلام على التوالي، ثم افتعل مشاجرة مع مشاهد آخر واقتاده إلى قسم الشرطة ليستصدر محضراً رسمياً، ليعود بعد منتصف الليل إلى داره، حيث وجد عدة رسائل يائسة تركها له ناصر بعد أن قطع الأمل في الوصول إليه.
وقد وصل إلى المقر العام لضباط الانقلاب في حوالي الساعة الثالثة صباحاً، بعد أن تكللت العملية فعلاً بالنجاح. وقد كان من الممكن أن تفشل بسبب تخلفه عن الحضور، فنظراً لتخصصه داخل الجيش، كان هو الذي أوكل إليه تعطيل شبكات الإرسال ووسائل الاتصال في الدولة، ومن ذلك ما يخص القصر والجيش. وقد أمكن تفادي الكارثة بفضل عبد الناصر، الذي نجح في أن يحل محله في آخر لحظة.
صادفتُه مراراً وتكراراً، لكنني لم أحاول أبداً إجراء أي حوار صحافي معه، شأني في ذلك شأن جميع زملائي في وسائل الإعلام الأجنبية تقريباً. فقد كنتُ موقناً بأنه ليس لديه ما يخبرني به، وبأنه عاجزٌ عن صياغة أي رأي فريد.
كانت تصريحاته عبارة عن استعادة حرفية لكلمات عبد الناصر، كلمةً كلمة، إذ كان يولي زعيمَ الثورة إجلالاً مشبوب العاطفة. كان المقربون من دائرة السلطة يروون أنه اعتاد أن يُصغي إلى ناصر في خشوع، مؤمِّناً على كل عبارة من عبارات الزعيم بقوله: «صح، صح يا ريِّس»، حتى صار يُشار إليه عادةً بتلك الكلمات ذاتها. وقد خُلع عليه غير ذلك من الألقاب الهازئة، المحقرة والقاسية، مصداقاً لما شاع عنه من رداءة وخمول. ولم يكن ناصر يُكنُّ له تقديراً عظيماً، لكنه كان يدافع عنه رغم كل العقبات، من دون أن نعلم سبباً لذلك على وجه التحديد. فوفقاً للمقربين من ناصر، كان الريِّس يعوِّل على وفاء السادات غير المشروط له أثناء النقاشات وعمليات التصويت داخل «مجلس قيادة الثورة»، حيث يواجه أحياناً خطر الحصول على أقلية الأصوات.
كان معلوماً للكافةِ أن «الضباط الأحرار» يحتقرون السادات ويُشعرونه بذلك، سواءً بتجاهله أو بإهانته. فقد كانوا لا يطيقون خنوعه وتذلَّلـه لزعيم الثورة.
كانوا لا يعتبرونه واحداً منهم لأسبابٍ ليس من الصعب تخيُّلها. فإذ كان معظمهم من العسكريين، لم يكن ليخفى عليهم أن زميلهم قد قضى داخل الجيش أعواماً أقل من تلك التي قضاها في السجن أو في الخفاء لأسباب غير مشرفة. وشأنهم شأن ناصر، كان معظمهم إما قد تخرّج في الكلية الحربية أو من أساتذة الأكاديمية العسكرية، فكانوا يتعالون على ذلك الضابط الذي لا ألقَ له ولا براعةً مشهودة. وإذ كانوا من المحاربين البواسل في الحملة على الدولة اليهودية عام 1948، كانوا يعلمون أن السادات كان يقضي في ذلك الوقت أياماً بهيجة كمقاول ميسور الحال. كما أكد لهم غيابه المستغرب مساء الانقلاب العسكري إما عدم تحمله للمسؤولية أو جبنه وتخاذله، تبعاً لتباين الآراء فيه. هكذا، لم يكن عميل ألمانيا، وخادم الملكية، والإرهابي، ليتوافق مع تصورهم لمفهوم النضال ضد الإمبريالية.
بعد شهر واحد من قيام الثورة، كشف السادات نفسه حين اعترض بضراوة على القبض على يوسف رشاد الذي كان قد جنَّده في صفوف «الحرس الحديدي». وقد حقق مراده بعد أن هدد بتقديم استقالته. وتعبيراً عن الاستنكار، طالب أعضاء «مجلس قيادة الثورة» عندئذٍ بفتح تحقيق لتحديد إذا ما كان السادات عضواً نشطاً في التنظيم السري التابع للملك فاروق، أو قدَّم للقصر معلومات حقيقية عن تنظيم «الضباط الأحرار». وإذ لم يفضِ التقصي إلى أيِّ نتيجة، حال عبد الناصر دون معاقبة السادات. هكذا تمكَّن يوسف رشاد، الرجل الذي تفانى في خدمة الملك، من العيش في سلام تام حتى وفاته.
رغم كل شيء، كان واضحاً أن الريِّس يرتاب في نزاهة ربيبه. فطوال عشرين عاماً في الرئاسة، لم يعهد إليه بأي تكليف قد يخوله ممارسة سلطة فعلية، على عكس ما فعل مع «الضباط الأحرار» الآخرين. وبعد وصوله إلى رئاسة الجمهورية، سيدَّعي السادات بمنتهى الجدية أنه قد رفض تولي أي حقيبة وزارية لأنه «لا يفهم إلا في السياسة». أما نبذ زملائه له، فهو يفسره في مذكراته الأخيرة بأنهم كانوا «يغارون من البطل الأسطوري، من الرجل الوطني، من نجم قضية قتل أمين باشا عثمان»(1)، الذي يعرفه الرأي العام ويجلّه. وبدوره بادلهم هو الآخر احتقاراً عميقاً، إذ يضيف في كتابه: «لم يخطر على بال (زملائي) أني أبتعد ترفعاً لا عجزاً.. كان دافعي هو إحساسي بالترفع لا بالعجز (..) وتعالياً على صغائر الأمور وفي مقدمتها السلطة». والسبب وراء ذلك بسيط كما يوضح، فزملاؤه «مجموعة من الضباط الشباب كانوا منذ ثلاثة أيام فقط يجلسون إلى مكاتبهم كغيرهم من أفراد القوات المسلحة، لم يعرفوا الجوع أو التشرد، لم يتعرضوا للسجن أو الاعتقال(..) ثم بعد إعلان الثورة وجدوا أنفسهم ينتقلون فجأة من مكاتبهم ومراكزهم في الجيش إلى مراكز السيادة. فهم وحدهم يحكمون مصر بلا منافس أو منازع». لكن يبقى أن عبد الناصر قد أوكل إليه مهمات صغرى غداة الثورة، فعيّنه بدايةً رقيباً على الصحافة ثم رئيساً لتحرير صحيفة «الجمهورية» اليومية، وهي واحدة من الصحف شبه الرسمية الناطقة باسم النظام، وهو المنبر الذي استخدمه السادات بكثرة لتملق عبد الناصر طوال الوقت. بعد ذلك، شغل مناصب أخرى مهمة، لكنها كانت محض مناصب فخرية. يُقال إن عبد الناصر كان يشكو إلى خُلصائه من «كسل» السادات، ومن إدمانه للحشيش، ومن فساده. وقد أُعلم عبد الناصر بأن وليّه قد اقترف انتهاكات في الفترة التي كان يدير فيها صحيفة «الجمهورية». لكن هل علم بأمر تلقي ربيبه راتباً منتظماً من رئيس الاستخبارات السعودية؟ هكذا تبيَّن بعد وصـــوله إلى الرئاسة أن المملكة الوهابية قد راهنت، منذ وقت مبكر، على الجواد الفائز، بينما كان هو لا يشارك في السباق إلى الحكم، على الأقل ظاهرياً…
وبطبيعة الحال، أثار انتخاب السادات لرئاسة الجمهورية في مطلع أكتوبر (تشرين الأول) 1970، بعد أيام من وفاة عبد الناصر المفاجئة، مشاعرَ لدى مواطنيه، تراوحت بين اللامبالاة، والدهشة، والوجوم. وتردد آنذاك أن «قزماً» قد اندسَّ في ملابس العملاق. إذ لم يكن مفهوماً وقتها لماذا انتخبه جميع القادة الآخرين بالإجماع وبمنتهى السرعة، بينما كان بِمَلكهم اختيار واحدٍ من بينهم، يكون أكثر استحقاقاً وأوفر جدارة. والحقيقة أن السادات قد استفاد من تصادف عدة ظروف دفعت به، رغماً عنهم، إلى رأس الدولة.
فقبل ذلك بأشهر عدة، كان عبد الناصر قد عيّنه في وظيفة فخرية، هي وظيفة نائب رئيس الجمهورية، جاعلاً منه بذلك خليفةً محتمَلاً له. إذ لم يكن يحسب بالطبع حساب رحيله المبكر في عمر يناهز الثانية والخمسين؛ ووفقاً لمعلومات توافرت في ذلك الوقت، تردد أنه كانت لديه النية في عزله بسبب خطأيْن فادحيْن كان قد ارتكبهما. وبطبيعة الحال، كان باستطاعة الورثة الطبيعيين لزعيم الثورة استبعاد السادات من المنافسة، لكنهم، إذ أخفقوا في التوافق حول اختيار خليفة لناصر، فضَّلوا الانزواء مؤقتاً، لكي لا تستفحل الأزمة القابضة على النظام منذ هزيمة 1967. كان جزءٌ من أرض البلاد لم يزَل تحت احتلال القوات الإسرائيلية، وحربٌ كامنةٌ لم تزَل تُكبِّد الشعب خسائر فادحة، لتبقيه رازحاً تحت نير أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة.
هكذا تخيَّل مختلف الفرقاء الموجودين داخل السلطة أنهم قد وجدوا مخرجاً بتأييد رجل عُرف بولائه غير المشروط لعبد الناصر ـ مما سيرمز إلى استمرارية النهج ـ بمثل ما عُرف باستكانته وبافتقاره إلى الطموح، والكاريزما، ومراكز التأييد داخل الدولة. فإن تبدى أن الرئاسة الجماعية التي ارتأوا تطبيقها مؤقتاً عصية التنفـيذ، فلن يشقَّ عليهم أن يأتوا بغيره بدلاً منه. ذلك كان ظنهم. وذلك كان خطأهم المميت، الذي سرعان ما تكشَّف لهم.
من جانبهم، شهد المراقبون ظهورَ رجلٍ لا يشابه ذاك الذي ظنوا أنهم عارفوه، رجل سيُفاجئ المصريين والرأي العام العالمي على حد سواء.
في خطاب تنصيبه، أقسم السادات قسماً معظماً أن يواصل السير على سياسة سلفه، وأن «يدافع عن الإنجازات الاشتراكية المكتسبة لمصلحة الجماهير الكادحة»، وأن يشارك بالأخص في حكم جماعي. رغم ذلك، ومنذ الأيام الأولى لرئاسته، أعرض السادات عن تعهداته، وانبرى في تنفيذ برنامج يبدو أنه كان قد أعده مسبقاً على مهل. وبلمسات صغيرة متتابعة، راح يُعمِلُ الشكَّ في سياسة قائد الثورة مع الحرص في الوقت ذاته على الإلحاح في تكريم «الزعيم الخالد»، مقدماً نفسه على أنه الوريث الأكثر استحقاقاً لخلافته. وقد تحدَّت أولُ إجراءات اتخذها إرادةَ أولئك الذين دفعوا به إلى سدة الحكم.
فبعد أقل من شهرين من وصوله إلى الرئاسة، أصدر الساداتُ قراراً يلغي بمقتضاه عدداً من المصادرات التي استهدفت أصحاب الثروات الضخمة، والذين تصادف أنهم أيضاً من أعداء الثورة. ثم شرع في تفكيك الإصلاح الزراعي بإعادة الأراضي المصادرة إلى ثمانمئة من كبار المُلاك العقاريين. وإمعاناً في الإنعام والكرم، خفَّض أسعار الكثير من المنتجات الاستهلاكية الأولية، ورفع رواتب أكثر من 150 ألف عامل في القطاع العام. كما اتخذ مبادرات متنوعة أخرى، لا سيما في مجال السياسة الخارجية، بدون استشارة الأعضاء الآخرين في «القيادة الجماعية» من الناصريين التقليديين، الذين أظهروا الاستياء إلى حد التصويت بالإجماع ضده في اللجنة المركزية للحزب الأوحد، الاتحاد الاشتراكي العربي. وقد وصلت الأزمة التي تخللتها سجالات عنيفة في الصحف، إلى ذروتها في الرابع عشر من مايو (أيار) 1971.
في ذلك اليوم، انتقل السادات من القول إلى الفعل، فأمر بالقبض على سبعة أعضاء في الحكومة، جميعهم تقريباً من كبار المسؤولين في الحزب، موجهاً إليهم تهمة «التآمر» ضده لقتله.
للوهلة الأولى، بدت تلك «الضربة» متهورةً للغاية، لكونها استهدفت أشد رجال الدولة سطوةً، الذين كانوا يتحكمون في قوات الشرطة، وأجهزة الأمن، ووسائل الإعلام، وأجهزة الدعاية والحشد الشعبي. وفي خطاب بثته الإذاعة، هدد رئيس الــدولة بأنه س«(ي)فرم» كل من يغامر بالوقوف في صف «متآمري مايو»، الذين أُخـــذوا بغتةً، فلم يسَعْهم حتى الدفاع عن أنفسهم باستخدام أدوات السلطـــة التي كانت في حوزتهم. ولم يكن الســادات مقْدماً بذلك على مجــازفة حقيقية، فقد كان قد تأكد مسبقاً من ولاء قادة القوات المسلحة له.
هكذا، في غضون أربعٍ وعشرين ساعة، أمكنه التخلص من منافسيه ـ أولئك الذين لم يكُفّوا عن إهانته طوال سنين مضت ـ ليمحقَ في الوقت ذاته البنية التحتية للنظام الناصري. وفي الحال، شرع في عملية تطهير موسَّعة لجميع إدارات الدولة وقام بإعادة سبك الحزب الأوحد. وعَهَد بالمناصب الكبرى إلى أشخاص اشتُهروا بموالاتهم لأميركا. ليدفع الناصريون والشـــيوعيون ثمن هذه العملية التطهيرية العاتية. وقد تم هذا الانقلاب بمنتهى الهـــمة، بعد أن قُدِّم على أنه «ثورة تصحيح»، ورُوِّجَ له باسم «الزعيم الخالد». هكـــذا صار خليفة عبد الناصر منذ ذلك الحين السيِّد المطلق على وادي النيل.
واجه الواحد والتسعون متهماً خطر عقوبة الإعدام. لكن محاكمة المتهمين الرئيسيين أمام «محكمة ثورية» ـ وكنتُ حاضراً لها – قد تحولت إلى فاصل من التهريج المفتعل. فقد دفع المتهمون ببراءتِهم، وشَكَوا من أنهم لم يحصلوا على عريضة الاتهام، المكونة من ألفي صفحة، سوى قبل 48 ساعة فقط من افتتاح جلسات القضية، حتى أن الوقت لم يسعفهم ولا محاميهم من أجل قراءتها. وبدا المدعي العام «الاشتراكي» غير مرتاح، متلعثماً، مرتبكاً، فيما راح يتلو قرار الاتهام المطوَّل الذي لم يكن مقصده واضحاً نظراً لكونه لا يورد أي دليل إدانة جدير بالتصديق. وعلى سبيل التبرير، طالب بإعمال «عدالةٍ سياسية»، غَمُضَ علينا إدراك معناها. ولم يجد محامو الدفاع أي غضاضة في الاستهزاء به والسخرية من ادعاءاته، وهو ما فجَّر الضحك داخل قفص الاتهام. وإذ لم يجد رئيس المحكمة في نفسه القدرة على الحكم على المتهمين بالإعدام، اكتفى بإصدار أحكام بالسجن لفترات طويلة. وقد لقيتهم مجدداً بعد خروجهم من السجن، بعد رحيل السادات. وجدتهم قد شاخوا وهدَّهم الدهر. فلم يعودوا بعد ذلك أبداً إلى الساحة السياسية. وبانتهاء المحاكمة، صار بإمكان النظام الســـاداتي منذئذٍ أن ينتشر بلا عائق. فقد كان السادات يعلم أن جزءًا كبيراً من الشعب يصبـــو إلى التغيير، ويقبل باتخاذ توجّهٍ سياسي جديد. فقد خاب أمل الكثير من المصريين في نظامٍ كان عبد الناصر نفسه قد أعلن سقــــوطه إثر هزيمة 67، وخاب أملهم في «اشــــتراكية علمية» لم تفِ بوعـــودها، وأصابهم الكلل من «الثورة المستمرة» التي لا تقود إلى أي مستقَر.
أما الطبقة البرجوازية، سواء القديمة، أو الجديدة المولودة في عهد ناصر، فضلاً عن غالبية طبقة الفلاحين، المرتبطة بالملكية الخاصة، فقد رحبتا بالتخلص من «عصابة عملاء موسكو»، كما سماهم الرئيس.
والمفارقة، أن صورة هذا الأخير غير المميزة ـ مقارنةً بعبد الناصر ـ كانت تبعث على الاطمئنان . فلقد سعت «فلسفته» إلى تسكين الخواطر: فهو يعلي من الإيمان بالله، ويؤكد أن العلم يؤول في غيابه إلى الفشل، ويمجد «أخلاق القرية»، وقيم العائلة، ودور رب الأسرة الكبيرة الذي يقيم العدل وينشره.
هكذا ستصبح مصر منذئذٍ، على حد قوله، «قرية كبيرة»، يحيا سكانُها في تناغم تام بفضل «تقاليد الأسلاف». وراحت وسائل الإعلام تشير إليه بصفته «الأب» الذي يسهر على مصالح الأمة، وهو أب يرفض تضخيم صورة الحاكم وصناعة الفرعون.
والدليل على ذلك قراره بألا يحمل أي طريق أو أي مؤسسة اسم مؤسس الجمهورية، وألا يُقــام له أي تمثال أو يخـــلد ذكراه أيُّ نصُب. مع ذلك، أمر بأن تعلق صورته مع صورة سلفه، جنباً إلى جنب، وبالحجم نفسه. أوَلم يفجرا، الأول كما الآخر، ثورتيْن متعاقبتيْن؟
بالتدريج، ستمحو الثانيةُ آثار الأولى. فقد اتخذ صاحب «ثورة التصحيح» إجراءات غيّرت حتى أسس الاقتصاد الذي أفسده على حد قوله «تدخل سلطة الدولة فيه على نحو مفرط». وبعد ذلك بأعوام، حين راح يجاهر بـ«تخلصه من عقدة الناصرية»، صرح برأيه بشكل أوضح إذ كتب في سيرته الذاتية: «لقد نقلنا بغباء مُطبق النسخة السوفياتية للاشتراكية».
صحيفة السفير اللبنانية