في مقهى «الزنوج»… بدأت الحكاية
في مقهى «الزنوج»… بدأت الحكاية.. لم تنبئه عرافة في صغره بأنه سيكون شاعراً ذات يوم، ولم تهيئه الدراسة لذلك. كان منشطاً في دور الشباب وبطلاً سابقاً في كرة الطاولة. لكنه قرر أن يكون شاعراً، كما عبر عن ذلك في قصيدته «حرفة الطير» من ديوانه «الوصية»: «لم أكن شاعراً/ لم أعدّ لذلك وما خالي الجن/ أو جدي الشنفرى/ غير أنّ البلاد صغيرة لا بد من شاعر في رباها».
ولكي يصير شاعراً، كان لا بد له من الانتقال للعيش في تونس العاصمة بين جنّ وملائكة الشارع الثقافي… استقر بطاولة في مقهى «الزنوج» في «شارع باريس» ليستفيد من حكمة هشام بو قمرة، ومن عبثية خالد النجار، ومن مرجعيات سليم دولة. كان منصتاً جيداً، يسجل أسماء كتب ومراجع يستشهد بها الآخرون، ليبحث عنها بعد ذلك في المكتبات وعند باعة الكتب القديمة… سرعان ما بدأ ينظم الشعر. شعر فيه صدى بعض رموز الحداثة الشعرية العربية، وأساساً تأثر كبير بتجربة محمود درويش ما بعد حصار بيروت… واستطاع بذكائه الفائق أن يختار لنفسه نهجاً وجمهوراً…
أما الجمهور، فكان طلبة اليسار في الجامعة التونسية لأنهم كانوا يؤثثون الهامش الثقافي في الجامعة وحتى في المدن الداخلية. أما النهج، فقد اختار لنفسه «الالتزام» بقضايا البلاد والعباد. كان شبه مقتنع بركود سوق الرومانسيات والمدحيات الفجّة للسلطان ولحزبه الحاكم. كان يختبر نصوصه بإنشادها في المقاهي والحانات، ويحدث تعديلات عند نشرها صحافياً أو في ديوان.
تعامل مع أغلب جرائد الأحزاب المعارضة، واستأثر بصفحاتها الأخيرة ليخاطب من خلالها الجمهور في مقالات نثرية تنقد الواقع بطريقة هزلية. النثر فضاح الشعراء، لكن نثر أولاد أحمد ساهم في الترويج لصورته كشاعر مغاير، وحتى حين نشر جملة من مقالاته في كتاب «تفاصيل»، نفدت نسخه بسرعة من الأسواق.
اعتمد على نفسه للترويج لصورته كشاعر مختلف وكحامل للواء الشاعر المناضل الملتزم بقضايا شعبه، وكان لا يستنكف من إشهار اسمه أمام سائق تاكسي أو نادل حانة أو بائع خضر. وعادة ما يكون هذا الاسم مقروناً بصفة طالما سعى لاكتسابها: «الشاعر».
وبروز أولاد أحمد في الساحة الشعرية التونسية، كان في فترة تعج بشعراء مختلفي التوجهات والطموحات. لم يكن معجمه اللغوي في غزارة معجم المنصف الوهايبي، ولم يكن يمتلك لطف عبارة محمد الغزي، ولم تكن له صنعة (القدرة على الوزن) آدم فتحي، ولم يمتلك سخرية منصف المزغني، ولا مباشرتية الطاهر الهمامي… ولكنه استطاع النفاذ إلى قلوب الناس، وصار الشاعر المطلوب في كل التظاهرات الثقافية والأدبية في تونس. لقد نزل بالشعر إلى الفضاء العام وقرأه في الساحات ومدارج الكليات.
كبرت طموحاته الشعرية ليسعى إلى تحقيق حلم أبي القاسم الشابي الذي عبر عنه في مراسلاته لصديقه الحليوي «بيت يجمع الشعراء»، فكانت دعوته لإنشاء بيت للشعر. ساعدته الظروف السياسية (مجيء بن علي للحكم) لتحقيق طموحه… فكان أول مدير لأول بيت شعر في البلاد العربية. مهمة لم يعمر فيها طويلاً ليعود إلى الشارع وللجمهور …
وعند قيام الثورة ـ من مدينته الأصلية سيدي بوزيد ــ لم يفكر طويلاً ليعلن انتماءه لهذه الحركة الثورية، بل لينصب نفسه على رأس القيادة الشعرية للثورة.
وبعد أشهر قليلة على الثورة، اكتشف أنّه مريض بالسرطان، فبدأ معركة جديدة في حياته ضد مرض السرطان وضد سرطان سياسي بدأ ينخر مفاصل المجتمع والسياسة في تونس، مدافعاً عن مدنية الدولة وعن كل مظاهر الحداثة في المجتمع.
رحم الله أولاد أحمد، الرجل الذي رغب في أن يكون شاعراً وحقق ما يريد… بقلمه وباستنزاف جسده في الفضاء العام.