فيروز…احتفالا بالماء
“الفن لا يغير الأنظمة ، وإنماالناس”
__________________________________________
كان صاحبي فرحاً بحيازته سيارة جديدة، ولأول مرة.
لم يكن قد تعلم قيادة السيارة، فتركها أمام البيت، ريثما يتعلم في مكتب مختص. وبعد شهرين، حصل على شهادة قيادة بالرشوة ، دون نجاح في الفحص…قاد السيارة في شوارع دمشق الخالية، ثم المزدحمة، ثم في ساحات وساعات الذروة.
لكن صاحبي، وهو من رموز المعارضة السياسية، في حقبة الثمانينات السورية (حيث جرت تلك الأيام أول بروفة لاستلام السلطة من قبل المجموعات الإسلامية المسلحة، التي أورثتنا لاحقاً مسرح الربيع العربي)…
صاحبي …كان ينقصه شيء لا يعرف ما هو،يدل عليه نقص في شجاعة القيادة، وفي الاستجابة السريعة إلى المأزق في ازدحام الطريق، أو الاستجابة الناجحة لتفادي حادث عرضي مفاجىء.او الاستمتاع المسالم بالقياده.
طلب مني، ذات يوم، أن أرافقه، وأعطي رأيي في قيادته. وكانت أولى ملاحظاتي أنه يشتم كثيراً “الحمير”- زملاء الطريق – الذين يقودون سياراتهم بطريقة لا تعجبه. وثاني الملاحظات أنه لا يقدر المسافة بينه وبين السيارات على الجانبين. وثالث الملاحظات أنه يسرع حيث يجب أن يبطىء. ورابعاً ، وهوالاسوأ ، أنه لا يخطىء، بل الآخرون السبب. وأخيراً، قلت له: السوريون بطيئون في الحياة، ولكنهم فجأة تنتابهم السرعة حين يقودون، وعندما يتوقفون تصطدم الرؤوس ومقاعد الجلوس.ويصبح الطريق مسرحا لازدحام الحمقى .
ومما قلته له، بين جد وهزل: ثمة قواعد في قيادة السيارة تشبه القواعد في قيادة السياسة، منها: يجب أن تفترض أن الآخرين شركاء طريق. وإنك، وأنت تفترض أن الآخرين “حمير” ، هم يبادلونك الفرضية نفسها. ومنها: أن الفارق بين الوصول المتأخر الآمن ، إلى المكان الذاهب إليه ، وبين الوصول إلى المقبرة…هو دعسة بنزين سيئة التوقيت.
كان يضحك، ويسخر من المقارنات ، ولكنني ذكرته بما هو أهم: أنت تقود سيارة، فيها أولادك، إلى المدرسة . إذن أنت مسؤول عن المستقبل، عن المصير ، عن الحياة…عن تتمة الحياة دون كارثة سببها نزق ، أو مغامرة ، أو سوء تقدير، أونرجسية مرآة مكسوره .
وفيما كنا نتناقش، هكذا… بين ترميز المعاني، وتصريح الأفكار، بين قيادة سيارة وقيادة بلاد…اصطدمنا بأحد شركاء الطريق ، وبدلاً من الهدوء اللازم في المأزق ، واللغة الآسفة ، كمقدمة للتفاهم … شتم كسوقي ، ونزل من السيارة كملاكم ، ووجه الاتهامات ، وتوعّد ، وكاد أن يهوي بقبضته على الشريك المتورط…بوصفه حمارا . وحين انتهت المسألة ، بانتظار الشرطة ، جلسنا في السيارة ، وبعد فاصل صمت قلت له:
هل لديك شريط لفيروز؟
قال مستنكراً: فيروز؟ هل نسيت رأيي بها؟
ذات سهرة في مطعم ، منذ ربع قرن ، طلبت من خادم الطاولة أن يسمعنا فيروز. فالتفت هو إلي وقال:
هل تحب فيروز؟
قلت مستنكراً: وهل هناك من لا يحب فيروز؟
إحدى بنات صديق آخر (صف سابع) سألتها، ذات مرة، هل تحبين فيروز؟ فأجابتتني بنزق: “عمو… من لا يحب فيروز قليل الأدب”.
ضحك صاحبي ساخراً…وأنا أروي له القصة ، وقال:
الرومانسية سوف تدمر البنية النضالية للمواطن العربي المقهور…فيروز تجعلك، وأنت تعيش في المدينة، تفكر بالبيادر وزهر البيلسان،والبنت في ورطة التوق المراهق ، والحب غير المتحقق، وسرديات قروية أخرى.
في تلك اللحظة عرفت أن صاحبي ، القائد السياسي ، ومثقف الجملة الثورية… لن يتعلم قيادة السيارة، في حياته ….
و …نزلت من السيارة قبل أن نتعرض لحادث آخر…
قد يكون الحادث الأخير!