فيروز التي في العينين تختزل الوجه وفي الحنجرة حاجة الروح لها
ليس مُحبَّباً تفرُّغ المرء في ميلاد #فيروز لإظهار قدرته على الكتابة، بل هو الحبّ من تلقائه يتجلّى فيصيب القلم بالزخم وبجمال ما يُستَخرج من الأرواح الصافية. وليس مُحبَّباً أيضاً الميل إلى تكثيف المصطلح وصفِّ المفردات الصالحة لكلّ مناسبة، فما نحن فيه يستحقّ الفرادة والصدق وطيب ما يشعر به القلب ليُحاكي قلب إنسان آخر. ولدت فيروز في 21 تشرين الثاني قبل ثمانين عاماً، ويُحتفى اليوم لا بالتاريخ بل المرأة. بالتي في الأعلى حيث النجمات والأماني الكثيرة والغيم في استعداده ليروي الأرض العطشى. ويُحتفى بالتي في مكانها المغلق على الضوضاء والرعب والمساحات المُهمَلة، قد لا يعلمُ أحدٌ بدمعها أو بما يختلج العمر من هواجس وتساؤلات وملامة. وإن مرَّت فوق قلب يتخبّط لامست تخبّطاته برقّة الصوت ونسمات الحنجرة قبل حرارة الشمس. وقبل زقزقة عصفور يرحّب كلّ صباح بأنيق فجرها. وقبل أن يخرج إلى الأزقة حاملو هزائم الليل ويملأون النهارات رجاءات وأدعية. فيروز مثل الطوفان وهو يحدث مباغتاً الأشجار مُشبعاً أعماقها. ومثل الانطلاق نحو الفصول الأربعة أو التهجُّم على الحزن بحزن أعمق. أو التفرُّج على العزلة والارتماء في حضنها لأنّها الحقيقة والضوء والصراحة.
يتغيّر العمر وفيروز الأغنية مثله، تُشبهه بميلها إلى المجاراة والمواكبة من غير أن تنزلق انزلقاته وتستسهل الفخاخ. يُعتَب عليها تبدّل “المستوى” والأخذ في ما قد يُسمّى الخفيف العابر الفقير الجوهر. ويُعتَب عليها لأنّ التجديد وفق رؤية الابن رماها في الشكّ والنقد والمقارنة. لعلّها في جمال ثمانينها تُراجع الخطى وما اقترف الفؤاد من أثر الأبناء في الأمهات. ما قُدِّم برؤية زياد الرحباني ببعضه فيروزيّ الروح، منساب كبديع الفكرة وهي تتجسّد على ورقة وتُرسَل إلى مشتاق. وبعضه القليل مُجارٍ العادي حدّ المبالغة، وصارخ حدّ أنّه يليق بأخرى. إنما والحال أنّ فيروز قدّ غنّته، فيحلو الظنّ أنّ المجاراة مُبرَّرة والصرخة بمثابة لحظة انفصال عن المألوف نحتاجها.
فيروز في ثمانينها عطر. فعلٌ فوَّاح فاضَ من الزهرات في عزّها وراح ينتشر. ليس العطر المصنوع جرّاء تفاعل المُركَّبات الكيميائية بل عطر خالص استثنائيّ، لا يُحصر في زجاجة ولا تُستنسخ منه الصور. فيّاضة، تمارس الغزو في اتجاه الكائنات فيما هي في مكانها تحافظ على الهيئة وعلى الهيبة وعلى هالات النموذج.
وفيروز في ثمانينها زنبقة. ليست الجوري فهو السائد بين العشّاق وليست الياسمين فهو الدارج في غزل الجميلات. زنبقة في حديقة متوهّجة وفي مساحات من ثلج. تقف من غير افتعال الشموخ وتتمايل من غير أن تقع. تتخذ لنفسها من الظلمات حضوراً فردياً ومن مناجاة النفس قصيدة. زنبقة لا تصارع الريح وإن صارعتها انتصرت. ولا تدير بتلاتها للشمس وإن فعلت فلن تتشبّه بالورود الأخرى.
وفيروز في ثمانينها قبلة. قبلة على الوجوه المقهورة، على صبحي الجيز وهو يرحل. وعلى الحصان الصغير الباقي من طفل ميت وعلى ضياع شادي. قبلة لا تخلّف وراءها بقايا أحمر الشفتين، بل ذاكرة. وقبلةٌ لا تتحقّق بالأجساد ولا تشترط لاكتمالها لقاء البشر. قد تتحقّق من خلف قضبان سجين أو جرس كنيسة أو من خلف شِباك صيّاد وقلم. وقد تتحقّق بالتلويح فحسب وبالتواصل من المسافات الهائلة ومن ذرف الدمع على كلّ مُعذَّب. أو بالنظر إلى بلبل في قفص ومواساة أمّ تبكي ابنها.
وفيروز في ثمانينها شوق. أن يشتاقها المرء من غير أن يطالب مبادلة أشواقه بلمحة. أن يحبّها لشخصها إن غنّت أو ابتعدت، وإن ابتسمت أو ما عادت تُدرك البسمة. وأن يواظب على التعلّق بها مهما كثُرت حولها الأقاويل واشتدّ الظرف عليها، ومهما تمسّكت بالغياب والانكماش والوحدة. ومهما صُدّت في الوجه أبوابٌ وبقيت فيروز في الخلوة. لا يُقابَل الشوق لها بالأثمان ولا بالبدائل والاقتراحات. إليها في ثمانينها الشوق والقبلة وصفاء الزنابق والسعي خلف العطر حتى النشوة. ليس ذلك بغرض تأليه المُحتفى بها، فهي نفسها لا تودّ الألوهية ولا إن فعل الأحبة سيُسرّ قلبها. ذلك برمّته فرح حسّونٍ يقف على غصن ويغنّي للولادات المتجدّدة فتصل الإنسان التغريدة. لمن تستطيع في العينين وحدهما اختزال الوجه وفي الحنجرة اختزال حبّ البشرية لها. وفي النظرات أن تُحاكي اللغز وفي الهدوء أن تطرد الجلبة من حولها. وفي الثمانين أن تدرك أنّ المرء ليس عُمراً، بل حاجة الآخرين إليه وحاجته إلى الآخرين كي يبقى لهذا العُمر معنى.
صحيفة النهار اللبنانية