فيلم زياد الرحباني «الأميركي» … لا يزال طويلاً
جمهور مسرحية زياد الرحباني «فيلم أميركي طويل» التي قدمها العام 1980 في أوج الحرب الأهلية التي قسمت بيروت مدينتين، لا يقل بتاتاً عن جمهور مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» التي قدمها في 1978. الجمهور نفسه، جمهور زياد، سواء المخضرم الذي شاهد المسرحيتين او الشاب الذي لم يتمكن من مشاهدتهما على الخشبة، يكاد يحفظهما غيباً في ما تحملان من «قفشات» ونكات وتعابير ساخرة وأغاني بديعة أداها ببراعته المغني الراحل جوزف صقر. ومثلما خرجت مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» العام الماضي في صيغة «سينمائية» مرممة وحصدت نجاحاً شعبياً كبيراً، ها هي مسرحية «فيلم أميركي طويل» تخرج ايضاً إلى الصالات، لتحقق حلم الجمهور «الزيادي» الذي ينتظر مشاهدتها ومشاهدة «أبطالها» ولا سيما «رشيد» الذي أداه زياد نفسه.
مشاهدة المسرحية قبل ستة وثلاثين عاماً في قلب الحرب الأهلية تختلف عن مشاهدتها الآن، ولو أن الأسئلة التي تطرحها، سياسياً وطائفياً، ما برحت مطروحة وربما بإلحاح شديد بعدما أضيف الصراع المذهبي الذي كرسه حزب الله إلى الصراع الطائفي الذي عاشه ويعيشه معظم اللبنانيين، علانية أو خلف الأقنعة.
لا تزال المسرحية راهنة جداً، وفكرة المصح النفساني الذي رمى زياد فيه الأشخاص الذين اختارهم وهم يمثلون شرائح كبيرة من الشعب «العنيد» ما زالت ممكنة. فـ «الأمراض» النفسانية في لبنان ازدادت (وفق الإحصاءات الرسمية) وكذلك أحوال الانقسام والكراهية الوطنية والفساد والتنابذ والصراع على الحصص داخل الطوائف والمذاهب وإلغاء الآخر «اللبناني»… ويمكن القول إن «مصح» زياد بات ضيقاً بأشخاصه المرضى وهم تسعة إضافة إلى الطبيب وفريق التمريض.
حتى وإن اختار زياد مرضاه بصفتهم نماذج من مجتمع الحرب، فهو شاءهم في الحين نفسه أشخاصاً حقيقيين أو بشراً من لحم ودم وليس فقط من أفكار. والعقد النفسية أو الانفصامات أو الأمراض التي يعانونها هي حقيقية ولكن «مضخمة» في معنى مسرح الغروتسك أو البورلسك. إنها أولاً وآخراً شخصيات مسرحية، تتراوح بين الكوميديا والتراجيديا، بل هي تدمج بين هذين النوعين لتخلص إلى ملامح طريفة جداً، هزلية ومأسوية. رشيد (زياد الرحباني)، قاسم (بطرس فرح)، نزار (محمد كلش)، عبد الأمير (رفيق نجم)، هاني (سامي حواط)، أبوليلى (جوزف صقر)، عمر (توفيق فروخ)، زافين (غازاروس ألطونيان)، إدوار (زياد أبو عبسي)، الدكتور (بيار جماجيان)… جميعهم شخصيات «زيادية» وممثلون ينضمون إلى ما يمكن تسميته «فريق» زياد وليس فرقته، ومعظمهم وسموا بالأدوار التي أدوها في مسرح زياد ولو لم تكن كثيرة.
ومعروف أن زياد لا يولي العمل على الممثلين اهتماماً كبيراً، ولا يخضعهم كمخرج لمنهج أدائي واضح أو محدد. إنهم يؤدون أدوارهم وكأنهم أسرة واحدة، يفهم الواحد الآخر ويتبادلون جميعاً اللعب بحرية وأحياناً بفوضى، وعلى هوى زياد نفسه. إنهم يحيون أدوارهم لا في المنطق «الواقعي النفسي» الصارم بل عبر منطق مفتوح يتيح لهم أن «يترحرحوا» في الأداء ويتنقلوا بين موقف وآخر وفق مزاجهم الشخصي والمزاج المسرحي العام. ويظل زياد هو العين التي تراقب ولكن ليس عن كثب. ولعل هنا تكمن خصائص مسرح زياد القائم أولاً على: الحوار، القفشات والتراكيب اللغوية أو الكلامية اللامعة، الأغنية والموسيقى، الحركة غير المضبوطة التي تلبي المواقف… ثم يأتي الإخراج والإضاءة والسينوغرافيا (ينجح دوماً غازي قهوجي في ابتكارها)، هذه العناصر جعلت من مسرح زياد مسرحاً شعبياً بامتياز، مسرحاً حقيقياً وحيّاً، ملتزماً، سياسياً و «إنسانوياً»، مسرحاً غنائياً ولكن في مفهوم جديد للغنائية.
ليس المهم أن زياد كان سباقاً في رؤيته التشاؤمية إلى الواقع اللبناني الذي ازداد تأزماً بعد الأعوام الستة والثلاثين، فهو وضع أصابعه على الجروح التي تعتري الجسد اللبناني وفضح الأمراض التي يعانيها معظم المواطنين، من دون أن يؤدي دور المحلل السياسي أو الباحث أو المنظر. وليس العنوان الفاضح الذي اختاره لمسرحيته – في دلالة إلى الدور السلبي الذي تمارسه الولايات المتحدة الأميركية – إلا مقولة كانت شائعة ولا تزال وقد أضيف إليها الآن وفي السياق الدور الروسي السلبي وكذلك الإيراني… أميركا وروسيا وإيران والغرب عموماً أصبحت كلها في قفص الاتهام وإن كانت أميركا هي اللاعب الأمهر. ومع أن زياد كان في تلك الآونة ينتمي إلى اليسار وقد هجر المنطقة الشرقية ليقيم في الغربية، فهو لا يتهاون مع الحركة الوطنية ومنظمة التحرير الفلسطينية التي غرقت في وحول الحرب الأهلية، تماماً مثلما لم يتهاون مع اليمين المسيحي، ساعياً إلى إضفاء الصفة العبثية على هذه الحرب ساخراً من جماعاتها سخرية مرة. فهذا نزار الناشط اليساري في الحركة الوطنية يشعر أن العلاقات الملتبسة بين أطراف النزاع خانت مبادئه والقضية عموماً وأصابت منه عطباً في رأسه ففقد المنطق العقلي. أما عبد الأمير، الأستاذ الجامعي الوطني والمعتدل فيضيع خلال عمله على تأليف كتاب عن المؤامرة، في متاهة التناقضات والحقائق المتضاربة حتى ليفقد الوجهة السليمة.
إدوار المسيحي في المصح الذي يقع في الضاحية الجنوبية (الغربية) يعيش حالاً من الخوف المرضي والهجس من الإسلام وكلما ذكر أمامه أسم محمود يرتجف ويهتز. زافين هو المواطن الأرميني الذي يعيش بين الشرقية والغربية وفيهما يملك متجرين لبيع الأدوات الكهربائية (يردد كلمة ستيريو)، وقد تعرض المتجران كلاهما للنسف والسرقة. يمثل زافين الشخصية الأرمينية المنفصمة الهوية بين انتماء أرمني هو الأصل وانتماء لبناني هو التابع، والتي تتنقل بين الشرقية والغربية لعدم مشاركتها في الحرب. هاني يعاني مشكلة الحواجز على اختلافها وهاجسه المرضي هو إبراز الهوية بطاعة تامة. قاسم يعاني الخوف من الفلتان الأمني والتفجيرات والسيارات المفخخة. أبو ليلى وعمر شخصان مدمنان على المخدرات يعالجان في المصح لكنهما يؤمنان بأن نهاية الحرب لا تتم إلا عبر ترويج المخدرات والتحشيش… أما رشيد الذي أدى دوره زياد فهو شخص معاند وعدائي، ارتكب هفوات عدة في الشارع معتدياً على المارة وشاتماً إياهم… وفي رأي هذا المجنون أن الشعب هو المسؤول عن الحرب أولاً وأخيراً… رشيد يشبه زياد الممثل وهو كتب الدور على قياسه مثلما كتب أدوار كل الممثلين على قياسهمم كممثلين وأشخاص.
قد يكون مصح زياد في مسرحية «فيلم أميركي طويل» عبارة عن وطن هو لبنان، لكنه لم يشأ الترميز المباشر بل ترك للممثلين – الشخصيات أن تحول المصح إلى حيّز للعب والتهريج الجميل والجنون والتداعي. بل هو جعل الدكتور والممرضين والممرضات مرضى بدورهم ومرضهم هو الطائفية فيتضاربون داخل المصح مثل المرضى أنفسهم.
لم تفقد مسرحية «فيلم أميركي طويل» فرادتها وطرافتها وسخريتها اللاذعة وبعدها التراجي – كوميدي البديع، بل إنها لا تزال راهنة جداً وواقعية، خصوصاً في لمسها أعمق الجروح اللبنانية: الطائفية. وختاماً لا بد من توجيه تحية إلى الفنانة الراحلة ليال عاصي الرحباني التي تولّت تصوير المسرحية عبر كاميرا سوبر 8. فلولاها لما تمكن الجمهور من مشاهدة المسرحية في صيغتها الجديدة.
صحيفة الحياة اللندنية