قراءة فى كتاب للدكتورة منى مكرم عبيد يوثق سيرة ومسيرة مناضل استثنائى «مكرم عبيد.. كلمات ومواقف»
تظل شخصية وسيرة مكرم عبيد أبرز النماذج الدالة على وحدة مصر الوطنية وتظل مقولته الشهيرة «مصر ليس وطنا نعيش فيه إنما هى وطن يعيش فينا»، من أشهر المقولات الوطنية وأعمقها وقد نسبها البعض خطأ للبابا شنودة، وهو القائل أيضا: «اللهم يا رب المسلمين والنصارى اجعلنا نحن المسلمين لك وللوطن أنصارا، واجعلنا نحن نصارى لك، وللوطن مسلمين»، وقد التزم المناضل الكبير بهاتين المقولتين قولا وفعلا ونضالا. أيضا تظل كلمات الإطراء من زعيم الأمة سعد زغلول على روعة العبارة وعمق الدلالة وسلاسة الخطابة على خطابات مكرم ترن فى آذاننا هذا هو المجاهد الكبير وخطيب الوفد وسكرتير حزب الوفد مكرم عبيد، الذى كان أكثر الخطباء استشهادا فى خطبه بآيات بينات من القرآن الكريم، وحين كان المسلمون يتخاصمون فى قنا كان هو الحكم العدل بينهم يرضون طائعين وقانعين بحكمه وعدله وموضوعيته وحكمته. ونحن هنا نقدم قراءة فى الكتاب.
رغم خلافه الشهير مع النحاس فإن أحداً لم يشكك فى وطنيته
نقرأ فى مذكرات فخرى عبدالنور أن سعد زغلول باشا حين عاد من أوروبا إلى الإسكندرية فى ٤ إبريل ١٩٢١ وكانت البيعة الكبرى. وفى ٥ إبريل استقل القطار إلى القاهرة وفى القطار قدم له «ويصا واصف»، عضو الوفد الشاب، وليم مكرم عبيد وكان مدرسا بمدرسة الحقوق فحياه سعد وأثنى عليه وأعرب عن إعجابه بمذكرته القيمة التى كتبها بالإنجليزية، ردا على مشروع المستشار القضائى الإنجليزى وكان سعد قد ضم مكرم إلى الوفد فى ٦ مايو ١٩٢١ وقبل أيام صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتابا عن مكرم عبيد بعنوان «مكرم عبيد كلمات ومواقف»، ويعد هذا الكتاب أهم كتاب صدر عن سيرته، خاصة أنه تأليف الدكتورة منى مكرم عبيد لكونها مصدرا أصيلا وموثوقا لسيرة الرجل كما انعكس هذا على البعد الإنسانى للكتاب والشخصية المكتوب عنها الكتاب، والكتاب يعكس جهدا جبارا وكأنما أنجزه فريق بحثى وليس مؤلفا واحدا وكان الكتاب أشبه بالبانوراما الدرامية والتاريخية والفوتوغرافية لسيرة الرجل ومحطات مسيرته النضالية الوطنية الحافلة فمثلما ضم سيرته كان مشفوعا بباقة من الصور والوثائق والخطابات النادرة ويقع الكتاب فى ٥٣٦ صفحة من القطع الكبير وقدم له الدكتور أحمد زكريا الشلق.
وتقول منى مكرم عبيد فى مقدمتها للكتاب إن صدوره كان مواكبا للمتغيرات التى شهدها المجتمع المصرى خلال المرحلة الانتقالية التى مر بها فى إطار ما أطلق عليه البعض «ثورات الربيع العربى» وأن مشهد المرأة المصرية ما بين ثورتى ١٩١٩ و٢٠١٣ قد استوقفها بعد أن بدا لافتا للنظر مشاركة النساء بشكل موسع فى المطالبة بالتغيير وترجمت مواطنتها فعليا من خلال الخروج بأعداد كثيفة حرصا على مستقبل أفضل لها ولأبنائها كما كانت طوابير الاستفتاء على الدستور والانتخابات الرئاسية خير شاهد على المشاركة الفعالة للمرأة وتأكيدا على حقوقها التى تعمدت حكومات سابقة انتهاكها وصولا لتغير الأمر، حين صارت عنصرا مرجحا فى أى عملية انتخابية قادمة، ثم انطلاقا من ٢٥ يناير والإطاحة بنظام سياسى استبدادى ومرورا بمرحلة من عدم استقرار، وصولا لرئيس عمل على ترسيخ الاستبداد الدينى على حساب التعددية واحترام حقوق الإنسان والمواطنة وصولا إلى التغيير الذى دشنته ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ ومثلما شهد المجتمع ثمار تلاحم المصريين فى ثورة ١٩١٩ والتى كان شعارها يحيا الهلال مع الصليب والدين لله والوطن للجميع وبالرغم من تلاحم المصريين فى ثورة ٢٥ يناير وما شهده ميدان التحرير من صلوات مشتركة بين المسيحيين والمسلمين إلا أن الجرائم الطائفية التى شهدها المجتمع عملت على تغييب الصورة الحقيقية حيث شهدت الفترة من مارس ٢٠١١ حتى إبريل ٢٠١٣ عددا من الجرائم المؤسفة وكان من الطبيعى أن يثور المصريون من جديد حفاظا على دولتهم وتلاحمهم الوطنى فكانت المشاركة الخلاقة لملايين الأقباط مع إخوانهم المسلمين فى ثورة ٣٠ يونيو التى مثلت استرداد مصر.
كان هذا قبسا من المقدمة الأولى لمنى مكرم عبيد والتى كانت خلفية أولى لملابسات وأسباب إصدار هذا الكتاب وقد جاءت فى شكل توطئة للروح العامة والنسق العام والفكرة الجوهرية للكتاب عن مكرم عبيد الذى كان من أبرز رموز الوحدة الوطنية والمدافعين عنها للحيلولة دون شق الصف الوطنى والاجتماعى المصرى وتبدو التوطئة وكأنها انحرفت عن المتن الرئيسى للكتاب ولكنها تلتقى مع روح ومضمون وفلسفة عرض سيرة هذا الرمز الوطنى مكرم عبيد ولذا فقد كانت هناك مقدمة ثانية للمؤلفة تتقاطع مع صلب الموضوع وقد جاءت تحت عنوان «مكرم عبيد الإنسان»، راصدة مقدمات وأجواء وملابسات العكوف على إصدار الكتاب ومما جاء فيها على لسان منى مكرم عبيد: «قضيت سنة أو أكثر أعيش فى جو هذه الخطب الخالدة فلما انتهيت من إعدادها وتبويبها خيل إلى أننى خرجت من حفلة موسيقية رائعة الأنغام متنوعة الألحان فسمعت النغم الثائر والقيثار الحزين ودقات الطبول العنيفة تدعو إلى النضال والنغم الفرح المرح ولعل ليس هذا إحساسا غريبا وغير منفصل عن صاحب هذه الخطب الذى كان ولعا بالموسيقى بل كان يغنى ويطرب للغناء.
كما اكتشفت من خلال هذه الخطب أبعادا أخرى ثرية فى شخصية عمى مكرم عبيد فقد عاصرته طفلة وشابة وما كنت أعرف عنه هو ما يتعلق بالناحية الإنسانية فقد كان لى بمقام الجد حيث كان يكبر أبى (شقيقه) بثمانية عشر عاما وكانت تربطنى به محبة عميقة وكنت له أعز أبناء إخوته، فقد كنت أعيش معه فترات طويلة فى منزله فى منشية البكرى أو فى سيدى بشر بالإسكندرية كما كان يصطحبنى فى رحلاته إلى الأقصر.
وفى منزله بمنشية البكرى عايشت السياسة من خلال الاجتماعات التى لم تنقطع فقد كان المنزل أشبه بالمنتدى السياسى، ومن يعاشر مكرم عبيد يجد فيه إنسانا يختلف تماما عن تلك الصورة التى عرفه بها الناس وكان من أمتع الأحاديث التى سمعتها منه هو الحديث عن المنفى والذى كان نقطة محورية فى حياته فمسألة نفيه مع سعد زغلول تعنى ضمنا أنه قد تم إضفاء شرف الوطنية عليه وعلى زملائه فى ظروف بالغة الحرج وكانت العنصر الأساسى الذى دعم فكره ورؤيته الوطنية وأكد على ذلك الارتباط الروحى بالوطن كما أصبح وثيق الصلة بسعد زغلول وأصبح معروفا باسم «ابن سعد»، وقد تعلم من سعد كيف يعيش حياة التحدى والقوة المعنوية التى تقهر الصعوبات كما كانت فترة المنفى مولد العلاقة الإنسانية الوثيقة والاستثنائية مع مصطفى النحاس باشا والذى كان الخلاف الذى وقع بينهما فى النهاية صدمة لكل المصريين كما كانت فرصة لإثراء لغته العربية الفصيحة والبليغة على يد عاطف بركات الذى كان ناظرا لمدرسة القضاء الشرعى، فضلا عما لقى من استقبال شعبى حافل حين زار بلاد الشام وكان يقول إنه حين زار فلسطين قال له بعض الإخوان العرب إنهم جميعا وفديون وأن غير الوفديين لا يوجدون إلا فى مصر بلد الوفد
وتقول منى مكرم عبيد إن من الدوافع التى شجعتها على نشر هذه المكرميات هو ذلك الصدى الذى استشعرته عن أثر هذه المكرميات على من قابلتهم من الإخوة العرب من خلال عملها فى جامعة الدول العربية وعضويتها فى منتدى الفكر العربى، وكان أحمد قاسم جودة قد نشر أول مجموعة منها فى ١٩٤٤ وهذه المكرميات قامت بنشرها باسم المكرميات الثانية
ويقول الدكتور أحمد زكريا الشلق، فى تقديمه للكتاب، إن الدكتورة منى مكرم عبيد صنفت هذا الكتاب على أساس علمى عن عمها مكرم عبيد الذى كان من أبرز قادة الحركة الوطنية المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين وهو «ابن سعد زغلول البار» كما أطلق عليه وأن هذا الكتاب يعد مصدرا مهما من مصادر التاريخ المعاصر، ويضم الكتاب خطب ومذكرات مكرم عبيد وبيانات قدمها حول مواقفه وآرائه وما صدرعنه عبر مشاركته فى العمل السياسى والوطنى، كما تكمن أهمية هذا الكتاب أيضا فى أنه يلقى الأضواء على الكثير من جوانب الحركة الوطنية والسياسية المصرية وأدوار رجالها على نحو تدعمه النصوص الموثقة، كما يبرز جانبا مهما من جوانب الحركة الوطنية من حيث الدور الوطنى لأقباط مصر حين كان مكرم عبيد الرجل الثانى فى حزب الأغلبية (حزب الوفد) كما يكشف عن الثقافة الرفيعة للزعماء الوطنيين آنذاك ويوضح ما كان يتميز به مكرم عبيد من بلاغة فى الخطاب السياسى والدور المشهود الذى لعبه فى الحركة الوطنية على مدى ثلاثة عقود منذ اندلاع ثورة ١٩١٩ مرورا بنفيه مع زعماء الوفد إلى سيشل وصولا لدوره البرلمانى والحزبى وتوليه لأكثر من وزارة، ومشاركته مع سعد زغلول فى مفاوضاته مع ماكدونالد عام ١٩٢٤ ثم معارضاته القوية التى لا تجاوز فيها مع الوزارات الاستبدادية الطابع.
وترصد منى مكرم عبيد محطات رئيسية فى حياة هذا المناضل الوطنى الكبير فقد ولد فى ١٨٨٩ ونال الابتدائية وعمره ١١ سنة والتحق بالكلية الأمريكية بأسيوط، ثم استكمل تعليمه بإكسفورد التى تخرج فيها عام ١٩٠٥ وحصل على امتياز فى القانون فى ١٩٠٥ فلما عاد عين سكرتيرا للوقائع المصرية بوزارة العدل فى ١٩١٣ وفى ١٩١٥ اختير سكرتيرا خاصا للمستشار القانونى الإنجليزى، وفى ١٩١٩ كان من بين الموظفين الذين أضربوا فى المصالح الحكومية احتجاجا على نفى سعد زغلول وفى نفس العام عين أستاذا فى مدرسة الحقوق لسنتين، وفى ١٩٢٠ تم ضمه إلى الوفد وبعد عام أوفده الوفد إلى لندن كوكيل لسعد زغلول أثناء مفاوضات عدلى يكن وكيرزون، وفى نفس العام نفى مع سعد إلى سيشيل ومعهما فتح الله بركات ومصطفى النحاس وسينوت حنا حتى ١٩٢٣ وفى هذا العام تزوج السيدة عايدة مرقص ابنة مرقص حنا باشا وبعد عام انتخب فى أول انتخابات دستورية فى دائرة قنا، وفى ١٩٢٤ بعد اغتيال السردار (لى ستاك) قبض عليه ثم أفرج عنه بعد التحقيق معه، وفى ١٩٢٧ اختير سكرتيرا عاما للوفد وبعد عام وفى وزارة النحاس عين وزيرا للمواصلات، وفى ١٩٣٠ عين وزيرا للمالية وكان قد سافر إلى لندن فى ١٩٢٩ حيث أوفده النحاس أثناء مفاوضات محمد محمود وعاد وسافر إليها مجددا فى ١٩٣٠ بمناسبة انعقاد المؤتمر البرلمانى الدولى وبعد عام قام بجولة موسعة فى بلاد الشام وزار فلسطين وسوريا ولبنان كما انتخب نقيبا للمحامين ثلاث مرات، وفى ١٩٣٦ شارك فى إبرام المعاهدة المصرية البريطانية كما شارك فى مؤتمر مونترو بسويسرا لإنهاء الامتيازات الأجنبية فجعل المصريين والأجانب أمام المحاكم سواء، وفى عام ١٩٣٧منح لقب الباشوية وعين وزيرا للمالية للمرة الثانية، وفى ١٩٤٢ عين وزيرا للمالية والتموين وفى نفس العام وقعت أزمته مع الوفد وفصل من عضوية الوفد، وبعد عامين أسس حزبا جديدا باسم الكتلة الوفدية وفى العام ذاته شارك فى وضع بروتوكول الإسكندرية لإنشاء جامعة الدول العربية واشترك فى توقيع ميثاقها فى مارس ١٩٤٥ وكان فى ١٩٤٤عين وزيرا للمالية فى حكومة أحمد ماهر الأولى والثانية فى ١٩٤٥، ثم وزيرا للمالية فى حكومة النقراشى فى العام ذاته واستقال من وزارة النقراشى فى ١٤ يناير ١٩٤٦ احتجاجا على حادثة كوبرى عباس لقمع المتظاهرين فى ١١ فبراير١٩٤٦ وهو العام الذى استقال فيه من الوفد الرسمى بعد معارضته مفاوضات صدقى بيفن وفى ١٩٤٩ شارك فى مؤتمرات سان فرانسيسكو وكان ١٩٤٧ قد تعرض لمحاولتى اغتيال قيل إن القصر كان وراءهما، وفى ١٩٥٣ رشح ليكون ضمن لجنة الخمسين المكلفة بوضع الدستور وفى هذا العام وبعد إلغاء الأحزاب طبق عليه قانون العزل السياسى إلى أن توفى بمنزله بمنشية البكرى فى ٦ يونيو ١٩٦١.
غير أن هناك محطة مهمة فى مسيرة المناضل وهى غنية بالدراما بل إنها أرقت كل المصريين ولم تعرض لها منى مكرم عبيد وهى محطة خلافه مع النحاس رفيق رحلة نضاله وإصداره الكتاب الأسود الذى أثار جدلا فى الأوساط السياسية، غير أنه من ملامح الثراء التوثيقى والتحليلى لكتاب منى مكرم عبيد عن عمها ووالدها الروحى مكرم عبيد أن الكتاب جمع مباحث عبيد القانونية والسياسية وخطبه الوطنية- وما أكثرها وأطولها حتى إنه لا يتسع المجال بالطبع لعرضها جميعا أو نقل أحد نصوصها كاملة هنا- وهذا الجزء الكبير من الكتاب والذى يتجاوز ٧٠ % من الكتاب أسمته منى مكرم عبيد «المكرميات» ثم كان الجزء التالى لهذا الجزء الكبير جزءا آخر يتألف من مقالات ومقولات وشهادات عن مكرم عبيد، ثم كان الجزء النهائى الذى كان أشبه بباقة من الصور النادرة والوثائق والرسائل لمكرم عبيد والتى تجسد مسيرته أو محطات سياسية وإنسانية منها فيما يشبه القراءة الفوتوغرافية لهذه المسيرة الوطنية الغنية والحافلة.
ويتضح من الكتاب فى مجمله ذلك الجهد الخارق الذى بذلته منى مكرم عبيد فى إعداد وتجميع مادة هذا الكتاب ومن أبرز عناوين وموضوعات «المكرميات» مذكرة عبيد للمستشار القضائى الإنجليزى عن الاستقلال الذاتى، وخطبته التى ألقاها فى ٦ مايو١٩٢١ وهو الخطاب الذى تسبب فى نفيه مع سعد زغلول لاحقا، وهناك أيضا نص لمحاضرة قانونية تحت عنوان المفاوضات الرسمية شعبية لا حكومية، فضلا عن رسالته من المنفى إلى خطيبته (زوجته لاحقا)، وأكد فيها على مصرية الشعب دون فارق بين مسلمين وأقباط فضلا عن خطبته فى عيد الجهاد فى ١٣ نوفمبر ١٩٢٤ وأكد فيها على سلمية ثورة ١٩ ودعا لاتحاد الأحزاب حيث الوطنية والوطن أهم من الحزبية، كما كانت أشبه بمراجعة لحصاد الثورة وهناك مقال أيضا كتبه فى الأهرام فى ٢٥ يوليو ١٩٢٤ فى الاحتفال بنجاة سعد زغلول من الاغتيال وتكلم عن الجريمة السياسية، وعلى أثر اتهام أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى باغتيال السير لى ستاك ترافع عنهما ونشرت مرافعته فى جريدة البلاغ فى ٥ فبراير ١٩٢٦ وفى نوفمبر من نفس العام نشر مقالا فى الأهرام بمناسبة عيد الجهاد عن المؤتمر الوطنى للأحزاب الذى عقد برئاسة سعد زغلول، وهناك أيضا النص الكامل للخطبة الانتخابية لمكرم عبيد تأييدا لمرشح الوفد فى سنتريس سنة ١٩٢٩ وكثر فيها استشهاده بآيات من القرآن الكريم والحديث الشريف التى تؤكد على سماحة الإسلام وإيمانه بكافة الرسل ليحيا الهلال مع الصليب والأحاديث النبوية التى تحدثت عن قبط مصر، غير كلمة ألقاها فى حفل تكريم المحامين له فى ٢٨ ديسمبر ١٩٢٩ فضلا عما كتبه فى الصحف البريطانية ضد وزارة اليد الحديدية وزارة محمد محمود باشا ومسالكها التعسفية ضد الوطنيين وضد من يعارضونها، كما عرض هذا الجزء من الكتاب للحفاوة التى قوبل بها عبيد فى بلاد الشام وفى سياق هذه الرحلة أوردت المؤلفة خطاب مكرم عبيد فى دمشق وأشاد فيه باحتفاء الشاميين بالثورة المصرية ووحدة العرب فى مواجهة الاستعمار، وتوقع فيه أن ما يجرى من أحداث ما هو إلا مخاض لأحداث أعظم فى الشرق ستغير وجه التاريخ وأن للغرب مصلحة فى تعطيل مسيرة النهوض والصحوة الكبرى فى الشرق الأوسط، كما أوردت خطبه فى فلسطين ولبنان فضلا عن محاضرة ألقاها بقاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة المصرية فى أول نوفمبر ١٩٣٦ عن المعاهدة المصرية البريطانية (معاهدة ٣٦)، وهناك خطبة فرنسية ألقاها فى سان استيفانو فى المأدبة التى أقامتها الصحافة المالية الفرنسية تكريما له، إثر عودته من مؤتمر الامتيازات، وهناك مقال نشرته الهلال فى عدد إبريل ١٩٣٩عن عروبة مصر العربية بين الماضى والحاضر.
وفى الجزء قبل الأخير من الكتاب أوردت منى مكرم عبيد مجموعة من الشهادات أو المقالات التى كتبت عن مكرم عبيد من رموز الأدب والفكر والسياسة، ومنهم إبراهيم فرج والدكتور مصطفى الفقى وأحمد بهاء الدين وخالد محمد خالد والدكتور سعد الدين إبراهيم وفؤاد سراج الدين ودكتور يونان لبيب رزق وعباس محمود العقاد.
وفى هذه الشهادات قال إبراهيم فرج: «لم يكن مكرم عبيد ملكا لنفسه أو لأسرته، كان ملكا لأمته، ولذلك فإن الذين انشقوا عن الوفد نبذتهم الأمة إلا شخصا واحدا هو مكرم عبيد، فقد ظل قابعا فى وجدان الأمة.. لقد عرف مكرم عبيد بإتقان اللغة العربية وتطويعها لمنطقه وأفكاره ومازال البعض يحفظ بعض خطبه وحكمه عن ظهر قلب، ومنها قولته «نحن مسلمون وطنا ومسيحيون دينا».. إن الحديث عن مكرم عبيد يحتاج إلى مجلد، فإن دوره فى الجهاد الوطنى ضد الاستعمار ودوره فى إلغاء الامتيازات الأجنبية وفى العمل على إنصاف الفئات محدودة الدخل ومواهبه العديدة كخطيب ومحام وكاتب هى التى أهلته لكى يلقب بـ«المجاهد الكبير» و«ابن سعد» وهى التى ستبقيه دائما فى ضمير ووجدان الأمة كرمز حى للوحدة الوطنية.
وقال عنه أحمد بهاء الدين: «كان الفارس الذهبى للحركة الوطنية المصرية فى مرحلتها الليبرالية وكان المعيار الذى تقاس به المواقف الوطنية السليمة.. كنا نجرى ونتزاحم إلى حيث كان يعلن أنه سيخطب أو سيتكلم وقد كان سيد الفصحاء والبلغاء.. وكان لدى الناس المجاهد الكبير وابن سعد الواقف فى عين العاصفة السياسية باستمرار وقوف الفارس الذى لا يشق له غبار».
وقال عنه خالد محمد خالد: «أما عبقريته فكانت آفاقها كثيرة.. وعطاياها غزيرة وإلهاماتها دفاقة.. ومثيرة، بيد أنى أجمع هذا كله فى أنها كانت بعد عبقرية سعد زغلول، وكان الموصل الجيد بين عبقرية العصر وروح التاريخ ومسيرة الحرية وإرادة شعب».
وقال محمد حسنين هيكل: «أخذ مكرم عبيد أقل مما يستحق فى الاعتراف بدوره فى تمتين رابطة الوطنية المصرية (وفى صميمها فكرة المواطنة) من حيث إنه المسيحى القبطى المتمثل لروح الحضارة العربية، الذى استطاع لسنوات طويلة من أواخر العشرينيات وطوال الثلاثينيات وحتى بداية الأربعينيات أن يجعل من نفسه ومن دوره رمزا بالغ الأهمية فى الحياة السياسية المصرية، وإذا كان مصطفى النحاس هو زعيم الوفد لكن قيادة الوفد الفعلية كانت لمكرم عبيد ولقب بـ«المجاهد الكبير» واستحق هذا الوصف من ناحية فكرية بحتة حتى قبل الناحية السياسية الأوسع، وكان ذلك حتى باللاوعى تجسيدا حيا لتجاور دينين على أرض وطن واحد فى ظروف لم يترسخ فيها بعد مفهوم الوطنية ولم يتأكد فيها بعد معنى المواطنة».
وقال عنه الدكتور سعد الدين إبراهيم: «لم تعرف مصر الحديثة شخصية قبطية فذة أخرى بحجم ووزن مكرم عبيد، فرغم أن الأقباط قد اندمجوا اندماجا كاملا فى حياة مصر السياسية منذ فجر النهضة الحديثة، ورغم أنهم أسهموا بقسط وافٍ فى كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على قدم المساواة مع إخوانهم المسلمين إلا أنه لم تظهر من بين صفوفهم قيادة سياسية شعبية كارزمية مثل مكرم عبيد».
وقال عنه فؤاد سراج الدين: «كان مكرم فى مقدمة الصفوف المشتركة فى ثورة ١٩١٩ وترك وظيفته وانخرط فى سلك المجاهدين تحت لواء الزعيم سعد زغلول وأعجبنى سعد وقربه إليه وأطلق عليه لقب المجاهد الكبير ونُفى مع سعد والنحاس، وكان مناضلا صلبا شديد المراس وكانت القضية الوطنية هى شغله الشاغل ليلا ونهارا، ضحى فى سبيلها بحريته وبراحته ونُفى بسببها مع سعد والنحاس، وما كان ذلك ليوهن من عزيمته أو يلين من قناته.. كان مكرم ملما بالقضية الوطنية كل الإلمام، وكان اليد اليمنى لمصطفى النحاس فى كل المفاوضات التى أجراها مع الإنجليز وساعد على ذلك إجادته للغة الإنجليزية، واحتل مكانة خاصة فى قلب النحاس وأصبح الرجل الثانى للوفد، وكان خطيبا يشار إليه بالبنان بل كانت الجماهير تصر على سماعه فى كل مناسبة».
وقال الموسيقار عبدالوهاب: «عرفت الكثيرين من رجال السياسة البارزين ولكننى لا أذكر أن علاقة وطنية وحميمة قامت بينى وبين أهل السياسة كالعلاقة التى قامت بينى وبين مكرم عبيد، وقد رآنى مكرم عبيد وسمعنى أول مرة دون أن أدرى، كنت فى الواقع طفلا ولكننى علمت فيما بعد أن وكيل نيابة اسمه مكرم عبيد سمعنى فى أحد المسارح أغنى بين فصول التمثيلية المعروضة وأنه اتصل ببعض ذوى النفوذ طالبا منعى من الغناء أمام الجمهور حفاظا على صوتى وأنا فى هذه السن المبكرة وقد دعيت مرة مع غيرى لكى نحيى سهرة علمت أنه سيكون فيها وكيل النيابة وكان قد بدأ يشتهر سياسيا مكرم عبيد، فكان طيبا وحنونا معى وأبدى إعجابا خاصا.. لقد كان مكرم عبيد فنانا حتى أطراف أصابعه فى كافة مجالات التذوق الفنى والموسيقى والغناء، كانا غرامه، فهو مستمع نادر للموسيقى الشرقية والغربية وخبير بهما وكان له صوت رخيم ميزه الملايين الذين سمعوه يخطب فى الجماهير ومع ذلك فصوته الحقيقى كنت تسمعه حين يدندن بلحن شرقى قديم وحين كان يرتل القرآن ترتيلا بل كان يشرح بلاغة القرآن ويوضح أنه معجزة سماوية وكان لديه بيانو من نوع ممتاز، وكنت أذهب إليه بغير موعد فى معظم الأحيان فأجلس إلى البيانو أعزف».
وقال الدكتور مصطفى الفقى: «كان لسحر شخصية مكرم عبيد عندى أسباب، منها أن مكرم عبيد السياسى المصرى القبطى هو أكثر نموذج وطنى يجسد الخروج من مأزق الطائفية ليصبح تعبيرا واضحا عن الزعامة الشعبية بمفهومها الواسع الذى يتجاوز حدود الطائفية ليسطع فى سماء الوطن كله متمتعا بشعبية فى كل الأوساط الوطنية الإسلامية منها قبل المسيحية، ولأن مكرم عبيد امتلك كافة الملكات التى يحتاجها السياسى الناجح فى عصره فهو الخطيب المرموق والزعيم الحزبى المتألق والبرلمانى المتميز، كما اجتمعت لديه الثقافتان العربية الإسلامية والغربية المسيحية وهو لدى الجماهير (ابن سعد البار) الذى صقلت لغة القرآن لسانه وجعلته قريبا من مواطنيه، ثم هو فى ذات الوقت خريج إكسفورد الذى يعرف كيف يخاطب العقلية الأوروبية ويجد قبولا لديها».
وفى نهاية هذا الكتاب اختتمت منى مكرم عبيد هذه السيرة والمسيرة الحافلة بذاكرة فوتوغرافية تضم باقة من الصور النادرة التى توثق لهذه المسيرة بصور تمثل محطات ومواقف لهذا المناضل الكبير، وهى صور تبرز مكرم عبيد محاميا ومناضلا وإنسانا، فضلا عن بعض الخطابات والوثائق وبعض ما نُشر فى الصحف عنه مما يجعل الكتاب سجلا توثيقيا بالكلمة والصورة لهذا المناضل الاستثنائى.
صحيفة المصري اليوم