قصص مجهولة لترومان كابوتي … تكشف عبقريته المبكرة
حين توفي الكاتب الأميركي الكبير ترومان كابوتي في شقته عام 1984، لم يترك خلفه إرثاً أدبياً ضخماً فقط، بل أيضاً صورة رجل مدمن ومكتئب كان قد توقّف عن الكتابة منذ سنوات. وهذا ما دفع بعض النقّاد إلى محاكمته بشكلٍ جائر عبر اعتبارهم أنه لم يحترم موهبته. اعتبار تفجّره مجموعته القصصية التي صدرت العام الماضي في نيويورك مبيّنةً، بقصصها التي كتبها بين سنّي الخامسة عشرة والتاسعة عشرة، إلى أي حد أخذ هذا العملاق الكتابة على محمل الجد، منذ نعومة أظافره.
ما يفاجئنا في هذه المجموعة التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «غراسيه» الباريسية تحت عنوان «الآنسة بيل ـ قصص من مرحلة الصبا»، هو ليس كشفها انطلاق كابوتي في كتابة قصصه منذ سن المراهقة، بل استشفافنا في هذه الأعمال المبكرة كل موهبته وأيضاً كل خصوصيات نثره، وبالتالي ما سيحدد هويته الأدبية لاحقاً.
طبعاً، نعرف أن كابوتي أمضى، منذ سن الثامنة، ساعات طويلة يومياً أمام الآلة الكاتبة، وأنه اتخذ قراره في أن يصبح كاتباً منذ سن العاشرة. لكن أحداً لم يكن قادراً على تخيّل أن تكشف قصصه المبكرة، التي اكتُشفت حديثاً داخل أرشيفه الضخم، هذا القدر من النضج سواء على مستوى الدراماتورجيا أو اللغة أو حتى النبرة والحساسية. وفعلاً، تظهر في كتاباته الأولى إرادته ـ ونجاحه ـ في تأليف جُملٍ بسيطة، «واضحة مثل مجرى ماء في جبل»، وفي بلوغ واقعٍ شعري بفضل لغته الصورية الدقيقة وأسلوبه الأنيق. أهم من ذلك، تبرهن هذه الكتابات على أن صاحبها عثر باكراً على صوته الخاص، وإن كان لا يزال أمامه العمل بجدٍّ لبلورة هذا الصوت وتجويده. صوتٌ يتصاعد منه عطر أراضي الجنوب الأميركي التي يحرقها سنوياً صيفٌ طويل، ويمدّه بمرارةٍ عميقة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كابوتي نظر باكراً إلى الانتظام في العمل كمفتاح النجاح، وتعلّم الكتابة على نفسه، قبل أن يلقى دعماً قيّماً من معلمة الإنجليزية في مدرسته التي أدركت موهبته ودافعت عنه، هو التلميذ الصعب، أمام زملائها. ومن دون كلل، اشتغل هذا الفتى على جُمله وصوره واحتكّ بمختلف الأنواع والألوان الأدبية، معتبراً الكتابة مسألة تدريبٍ وتعلُّمٍ ثابتين، كما تشهد على ذلك مخطوطات قصصه الأولى التي تعجّ بالتصحيحات والتعديلات.
ولأن هذه الممارسة شكّلت شغف كابوتي الوحيد في الحياة، وصفها يوماً بـ «العفريت الصغير» الذي تسلّط عليه وهو طفل وسمح له بسرد طفولته التي كان بالكاد قد خرج منها، وبرسم وبلورة طبعه الخاص من مسافة روحية أكثر منها زمنية مع نفسه، ولكن ضمن قرابة مؤثّرة ومذهلة مع شخصياته. فحتى حين استقى هذه الشخصيات من واقع مغاير كلياً لواقعه، تمكّن دائماً من وضع نفسه مكانها، هو الفتى الأبيض الجنوبي (من ولاية ألاباما) الذي ترعرع خلال فترة التمييز العنصري في بلده.
وهذا ما يقودنا إلى واحدة من أبرز ملَكات كابوتي، ونقصد تلك القدرة على التطابق مع الآخرين وتقمّص حالاتهم (l’empathie).
وفي هذا السياق، تمنحنا قصصه الأولى فكرة دقيقة عن الطريقة التي طوّر فيها هذه الملكة عبر تخيّله حيوات شخصيات شديدة الاختلاف، مع ميلٍ واضح إلى المهمّشين العاجزين عن العيش في قلب العالم، كمتشردَين يتسكَعان في بلدهما، أو طفلٍ يعاني من الوحدة، أو شابةٍ تخفي أصولها السوداء في مدرسة للفتيات البيض، أو عجوزٍ على حافة الموت، أو خادمةٍ سوداء من الجنوب الأميركي تجد نفسها في نيويورك بعيداً عن ديارها…
اكتشاف الذات
ولا شك في أن هذا الميل يعود جزئياً إلى مثلية كابوتي التي كانت تهمّشه داخل محيطه وتجعله عرضة للاحتقار والإهمال. فمثل كتّابٍ مثليين كثر قبله وبعده، ابتعد عن ذاته في نصوصه من أجل سبر غورها، وتأمّل الآخرين بدلاً من تأمّل نفسه في المرآة، كما لو أنه أدرك باكراً أن قدرته على الانزلاق تحت جلد غيره ستلعب دوراً مركزياً في فنّه السردي. قدرة تعكس حساسيته الشديدة وحبّه للآخر مهما كانت هويته أو لون بشرته، وبالتالي تضع في دائرة الخطأ تفسير لجوئه إلى كلمة «زنجي» (nigger) في قصصه ورواياته كموقف عدائي أو عنصري تجاه الإنسان الأسوَد. فمنذ نصوصه الأولى، نراه يصف برأفة ورقّة بالغة حياة مواطنيه السود في الولايات الجنوبية، مستعيناً بحذرٍ شديد بالتسميات والصفات التي كانت تُطلق عليهم حتى مطلع الستينات، كما نراه يشاركهم عواطفهم وينجح في كل مرة في تجسيد شعور الحب أو غيابه، عبر تصويره ببراعة نادرة اللحظة التي يمسّنا هذا الحب فيها، واللحظة التي نفقده فيها.
يبقى أن نشير إلى تعذّر فهم عبقرية كابوتي ومحرّكات كتابته من دون التوقف عند الفصل المؤلم لطفولته التي سعى عبثاً خلالها إلى كسب حبّ أمّه. وفي هذا السياق، يمكن تفسير هاجس الكتابة لديه منذ سن العاشرة كمحاولة لرأب الصدع الذي خلّفه فيه إهمال أمّه له، وفي الوقت نفسه كوسيلة للإمساك بها عبر تجسيدها وتثبيتها بواسطة الكلمات. وحتى راديكاليته ككاتب تغذّت بالتأكيد من بؤس طفولته، بينما انبثقت نصوصه بطريقةٍ أو أخرى من عدم اختباره حباّ غير مشروط من قبل هذه الأم الفاقدة غريزتها الأمومية، بل رفضاً قاطعاً لطبيعته الرقيقة والمتأنّثة، ما أجّج يأسه، ولكن أيضاً شدّد عزمه على تحويل هذا اليأس إلى فضيلة بفعل الكتابة، وعلى بلوع شهرةً عالمية بفضل موهبته الكتابية.
شهرة نالها مع رواية «فطور لدى تيفاني» (1958)، وخصوصاً مع رائعته الأدبية «بدمٍ بارد» (1965)، لكنها لم تعينه لتبديد ذلك الشعور بالتوحّد الذي رافقه طوال حياته. توحّدٌ أدرك كابوتي باكراً أنه قدر كل إنسان في هذا العالم، فسعى إلى تصوير مناخه منذ قصصه الأولى، جاعلاً منه خيطاً خفياً يعبر كل هذه القصص ويمنحها تماسكاً وبُعداً رؤيوياً أكيداً.
صحيفة الحياة اللندنية