قلب الفصول الأربعة وتقنيات روائية
تمثل رواية “أمطار يوليو” للروائي عبدالحميد بشارة، تعبيراً عن البيئة الريفية بمجتمعها المغلق على عادته وتقاليده، فتقدم الرواية طقوس الزواج والزفاف وأغنياته الضاحكة، وتبادل التهنئة والهدايا في المناسبات، وتبجيل المرأة لزوجها وخدمته راضية محتسبة، وطقوس الأحزان، وصلة الريفي بالأرض، وارتياد مسجد القرية، ومشهدية طريق القرية دفتر أحوالها، وفكرة عدم توريث البنت بدعوى خطورة ذهاب الأملاك إلى غريب.
ويشكل الفضاء المكاني عنصراً مساهماً في إنتاج تلك الطقوس والعادات، حيث تعانق الطبيعة والحقول وظروف المناخ واحتضان الجبل لتخوم قرية “جرجاوة” فضاء الفن في الرواية، فنجد “التماثل السردي” بين ظروف المناخ المتقلبة، وعواصف المشاعر واضطرامها في بوتقة الحب والكراهية، والسلمية والعنف، والتحدي والانكسار، والطموح الناجز والأمل المريض باعتباره اليأس المقنع، بداية من العنوان والذي يمثل علامة كلية بحق للعمل الروائي “أمطار يوليو” والذي يدرك القارئ مغزاه بقول شخصية الرواية الرئيسية “عثمان” في حواره الداخلي:
“إنها المطر المنتظر من رحم سحاب عقيم أظلك سنين، يوشك أن تهطل فاستعد .. ستغسل قلبك وأيامك معًا ويقدم تنويعًا آخر عن الصداقة باعتبارها الغيث في وصف علاقة “عثمان” بصديقه “حماد” الشخصية التي آثرت الهروب من واقعها الكابوسي المعيش بالزواج من أجنبية تكبر أمه، ومثال “حماد” يعبر عن أمثلة أخرى قبعت خلفية اجتماعية سردية في الرواية عن مشكلات الشباب وخاصة البطالة والواسطة والرشوة والفقر، وإن كانت شخصية حماد ثانوية ضمن عدد يقارب 25 شخصية مثيلة، كذا تلك الخلفيات أتت متباعدة وإن كانت مؤثرة.
والتماثل السردي لم يكن فقط في العنوان بل ظل تيمة فنية مستقرة بالرواية، وبلغ ذروتها في وصف “قلب الفصول الأربعة” صفحة 178، ونشير إلي مثال واحد فقط للتماثل السردي كعينة، في صفحة 15 يسرد الراوي جلوس عثمان في إضاءة خافتة، ماثلها في العقب ضمور الحلم وخفوته “وتبددت أحلامه كأزهار مجهدة بوادي الخريف الميت”.
الرواية تعتمر بفقرات بليغة فكرية وتأملات مستغرقة في التحليل الاجتماعي والنفسي، ترقى لسوق الحكم والخلاصات الحياتية، وهذا يتفق مع فضاء المناجاة النفسية في تأملها من ناحية، و”الشهادة على العصر” لدى الرواي العليم من ناحية أخرى
وتمثل العبارة اللافتة السابقة لأمطار يوليو إشارة إلي طريقة سرد مكونة في عدد من الذروات كسلسلة جبلية، حيث يوجد في الرواية نصف دائرة أولى بيانيًا تمثل ذروة الحدث بتصعيده للقمة الدرامية “أعلي منحني القوس” ثم تقودنا الرواية إلى الحل، فالذروة الأولى تطل مع أزمة بطل الرواية منذ الصفحات الأولي للرواية لدى وصف القهر والجدب النفسي وتعارض طموحه الدراسي والعملي مع عادات أبيه وقريته، كما بدت محنة “عثمان” في غيرة أخيه “صابر” وجفائه والشر المتصاعد في فناء قلبه، فأثمر صراع السلم والعنف في الذات الإنسانية وتعارض الإرادات درامية الحدث، وتوتر السرد عبر شحنات إنسانية معتبرة تعبر عن هياج المشاعر ورقتها لتماثل الطبيعة الإنسانية في قسوتها وحنوها.
وكانت لحظة التنوير في ظلال القسوة واغتيال الطموح، من خلال زواج الفتي من “علا” الفتاة الرقيقة ابنة شيخ البلد، وكان حضورها مشعاً في الرواية حيث من سمات الرواية الكبرى تلك النظرة الإيجابية للمرأة ودورها في الحياة، فحضور الأنثي فاعل في الرواية ومحوراً للربيع في فصولها النفسية، قارب ذلك وزاد من بهاء هذا الحضور تلك اللغة الشفيفة الرائقة التي ترتفي للنثر الشعري، واقرأ معي مثال صفحة 148 “أنت المطر الذي أنبت في نفسي المجدبة نوار الأمل، أتيت على غير موعد كأمطار يوليو، وأنبت رذاذك في روحي معاني الحياة، ….”، ولو تركت قلمي على سجيته لأثبتها جميعاً.
ثم كانت الذروة الثانية في ربع الرواية الأخير من خلال تعقيد الحدث الدرامي وعمل عقد جديدة، يقول عثمان لدى المحنة الجديدة: “ليس أصعب من عذاب من أخرج من الجحيم ليرى النعيم برهة ثم يرد إليه مرة أخرى، ليت الأيام ظلت بوجهها القديم القاتم، ليت السماء لم تمطر، ليت يوليو ظل على قيظه وناره مغلقاً قبضته علي مسام السحاب”، لذا كان الإيقاع السردي متوتراً، والصراع أشد ضراوة في الجولة الثانية، فكان لهاث الصدام المزلزل بين “صابر” الشرس وأخويه وأهل زوجة أخيه، و”صابر” وزوجته الطيبة “سمية”، و”عثمان” وتطليقه زوجته “علا” في محنة الصدام، …، وجاء الحل في خاتمة الرواية ناعماً قدرياً مشحونًا بالغاية النبيلة بتغليب الخير وإعلاء رايته، وكسر دائرة جهنم المفرغة من إنتاج الشرور وتعاظمها، كما تقول الحكمة الخالدة: “النار لا تطفئ النار، والمحبة فقط تطفئ الكراهية”.
إضافة إلي عدد آخر من “الذروات” الأزمات المصاحبة والمفسرة لمسارات الرواية وبواعث مشاعرها، فأزمة “خليفة” الأب في سياط الضمير التي تنهش ذاته والتى انتهت باحتسائه ذات الكأس المر الذى سقى منه أخته “مسعده” وأخيه “رمضان”، ونزول العقاب الأخلاقي به من عقوق “صابر”، واستعمل الراوي العليم كلي المعرفة تاريخ الكراهية “الأحقاد الدفينة المتوارثة كالنار تحت الرماد” بتعبير الرواية في اسشراف القادم الروائي باعتبار أن التاريخ هو الوثيقة التنبؤية المقلوبة للمستقبل.
يقول الراوي: “إنها الصورة المتكررة من الأيام، تعود بنفس تفاصيلها المزعجة، ونفس السيئات التي أضمرناها لغيرنا تعود إلينا كما هي بنفس ضراوتها بعدما أخذت دورتها مع الأيام والزمن”.
والرواية تشتبك بهذا مع القارئ وتغوية وتمسك في تلابيبه فهي من الروايات التي يصعب توقع الأحداث التالية عبر صفحاتها الـ 211، مما يمنحها سمة الإثارة، كما ماثلت لغة في الحوار (المحادثة) المضفر بالسرد ترقي بذائقة اللغة الفصحي لدي القارئ مع عدم مفارقة الخصائص الثقافية والبيئية للمتحدث، ما عدا مواضع قليلة أبرزها فلسفة “علي” صاحب العشر سنوات في موضع واحد بالرواية التي لا تناسب عمره
إضافة إلي اعتمارها بقضايا الوجود الإنساني، حيث هى رواية إنسانية تناقش تلك القضايا الأزلية حيث وردت إشارات لقصة الصراع الأولي: هابيل وقابيل في أكثر من موضع بالرواية، ومصائر الإنسان بين الجبر والاختيار، وبواعث الكراهية والخير في الذات الإنسانية مما استلزم الغوص وراء السطح والكشف عن بواطن الشخصيات الروائية.
وعند هذه النقطة خاصة نجد لتحقيقها أن الرواية غنية بتجريب تقنيات في موضوع الراوي “الكائن الورقي”، فيستعمل نطاق “الرؤية السردية الخارجية“، وهو المشهور بالراوي العليم المستبد الذي يمارس هيمنته علي مجتمع القصة وعناصر تشكيلها، وله وصف طريف بأن هذا النوع من الرواة جواسيس أكفاء ينتشرون في أرجاء العمل القصصي وكأن المكان محاط بميكرونات وكاميرات مختبئة في حين يسيطر الراوي العليم على كل ذلك من خلال حجرة الكنترول فتصير كل المعلومات في يديه
واستعمل الروائي بالموازاة للراوي كلي المعرفة تقنية (الحوار الداخلي أو “المناجاة”) ليكشف عما يدور داخل نفوس الشخصيات ويفتح لها الباب – في رواية تصف المشاعر المتقلبة – للإفصاح عن انفعالاتها الهامسة والجارفة بالأحداث، وتفريغ تلك الشحنات النفسية داخل الفضاء القصصي بعيداً عن صوت الراوي كلي الحضور، فالمناجاة النفسية همسات آلة سردية لقراءة الخواطر الدائرة في رحاب القلوب، وإذا أتت معانقة للرؤية الخارجية أتت مؤطرة بمؤشرات لفظية تساعد القارئ لإدراك بداية ونهاية المناجاة.
ويري النقد الأدبي أن تلك المؤشرات تحاصر المناجاة حيث يرفضها الراوي العليم طبقاً لطبيعته المستبدة، فيفصح عن وجوده ويعبر عن موقفه من المناجاة، واستعمل الروائي تلك المؤشرات اللفظة في مواضع قليلة بالراوية مثل صفحة 8 “حدث به نفسه”، كما استعمل “الشرطة” المماثلة لبداية كل قول في الحوار في أكثر من موضع، لكنه غالباً تخلص منها بحيث يُتاح له أقصى استفادة ممكنة من تقنيات الرواية
لكنها من ناحية أخرى سببت بعض التعثر في قراءة صفحات قليلة من الرواية حيث يتوقف القارئ مع نفسه في حواره الداخلي (يا ترى من الذي يتكلم؟!)، وكنت أرى استعمال ناحية تشكيلية كبنط الكتابة العريض للمناجاة، أو فواصل سابقة ولاحقة من النقاط، وبالطبع هذه وجهة نظر تحتمل المخالفة.
كما تعتمر الرواية بفقرات بليغة فكرية وتأملات مستغرقة في التحليل الاجتماعي والنفسي، ترقى لسوق الحكم والخلاصات الحياتية، وهذا يتفق مع فضاء المناجاة النفسية في تأملها من ناحية، و”الشهادة على العصر” لدى الرواي العليم من ناحية اخرى.
بقي أن نشير في هذه الرواية الملحمية الممتعة أن “سعدية” أخت “عثمان” المغتالة عدواناً وظلماً حضرت علي مسرح السرد باسم “سعدية” صفحة 62 وتكرر هذا الاسم ثم أصبح “مسعدة” صفحة 80 حتى نهاية الرواية.
ولا ننسي في الختام تقنية “الحلم”، وتوظيفها في مسارات الرواية لاكتشاف توابع الخطايا ولعنة الأثم، والفائدة التربوية عندما قال كثيراً في الرواية بالفن الروائي “احذروا … فإن الرجل ابن الطفل”.
ميدل إيست أون لاين