قِراءةٌ أوّليّة لما بين سُطور التسريبات حول “اتّفاق الغاز” اللبناني الإسرائيلي..
تتصاعد جُرعة التفاؤل في لبنان حول إمكانيّة توقيع اتّفاق مع دولة الاحتلال الإسرائيلي يسمح بالبَدء في استِخراج الغاز من المياه الإقليميّة اللبنانيّة، وبِما قد يؤدّي إلى إخراج البلاد من جميع أزَماتها الماليّة، فبعد اجتماع جمع اليوم الرّئاسات الثلاث في قصر بعبدا (ميشيل عون، نبيه برّي، تجيب ميقاتي) بات واضحًا أنها جبهةٌ مُتماسكةٌ ومُوَحَّدةٌ على المُوافقة على المُقترحات (الوسطيّة) التي عرضها عاموس هوكشتاين المبعوث الأمريكي، وتولّت السّفيرة الأمريكيّة إيصالها للدّولة اللبنانيّة.
السيّد إلياس أبو صعب نائب رئيس مجلس النوّاب قال إن لبنان سيُرسِل “تعليقات” مُوحَّدة غدًا الثلاثاء، وإن الحُكومة اللبنانيّة لن ترد على الاقتراح رسميًّا حتى يرد المبعوث الأمريكي على مخاوفها، قبل نهاية الأسبوع الحالي، وإن الشّياطين تكمن في التفاصيل، وأكّد أن لبنان حصل على كامل حُقوقه في حقل قانا.
الرئيس نجيب ميقاتي الذي يبدو الأكثر “حماسًا” لتوقيع الاتّفاق، قال بعد خُروجه من قصر بعبدا “إن الأمور تسير في الاتّجاه الصّحيح في مِلف ترسيم الحُدود البحريّة مع “إسرائيل” وكانت ابتسامته أعرض من أيّ وَقتٍ مضى، حتى كأنّ العوائد المِلياريّة الغازيّة أوشكت على البَدء في التّزاحم على خزائن المصرف المركزي اللبناني المليئة بثُقوبِ الفساد.
***
حتّى هذه اللّحظة لم يتم الكشف عن التفاصيل، الكاملة للاتّفاق، وكُل المعلومات المُتعلّقة به التي جرى ويجري تداولها مُجرّد تسريبات “مُتعمّدة” من الطّرفين المُتفاوِضَين (بشَكلٍ غير مُباشر) لـ”تزيين هذا الاتّفاق” وبما يعكس الرّغبة بالتّوقيع في أسرعِ وَقتٍ مُمكن، تَجَنُّبًا للبديل الذي يعني في حدّه الأدنى إشعال حرب على الحُدود اللبنانيّة “الإسرائيليّة”، أو إقليميّة تشمل جميع مِنطقة الشّرق الأوسط إن لم يكن أكثر، فأصابع المُقاومة على الزّناد.
وبينما يبدو الجانب اللبناني مُوحَّدًا وأكثر استِعدادًا للتّوقيع وهذه سابقةٌ مُعجزة نادرة لم تتحقّق مُنذ استِقلال البلاد، تسود الانقِسامات الحادّة المُعسكر الإسرائيلي، خاصَّةً بين يائير لابيد رئيس الوزراء المُؤقّت وحليفه الجِنرال بيني غانتس وزير الأمن من ناحيةٍ، وبنيامين نِتنياهو رئيس المُعارضة، وليكوده من ناحيةٍ أُخرى، فالأوّل يقول عبر تسريبات مُعسكره، إن “إسرائيل” ستحتفظ بالسّيادة الكاملة على حقل “كاريش” وتعويضات ماليّة عبر تخلّيها عن جُزْءٍ من حقل قانا تدفعه شركة “توتال” الفرنسيّة التي ستقوم بالتّنقيب والضّخ، ويُضيف على لسان أحد المُقرّبين منه “إسرائيل” أقدمت على تنازلٍ تكتيكيّ مُقابل رِبْحٍ استراتيجيٍّ في الاستِقرار على الحُدود الشماليّة”، بينما صعّد نِتنياهو هجماته على رئيس الحُكومة وانتِقاداته للاتّفاق ولتضمّنه تنازلات ضخمة من “أرض إسرائيل” وتسليم مواردها الطبيعيّة إلى لبنان وحزب الله، ودون إجراء استفتاء، أو مُصادقة الكنيست (البرلمان)، وتعهّد بإلغائه في حالِ وصوله إلى السّلطة بعد الانتِخابات التشريعيّة أوّل الشّهر المُقبل.
الجميع ينتظر اجتماع مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي “المُصَغّر” يوم الخميس المُقبل الذي من المُفترض أن يُناقش الاتّفاق ويُصادق عليه، وفي هذه الحالة قد تنتقل المعركة الداخليّة إلى المحكمة العُليا، والمُستشارة القانونيّة للبثّ بشَكلٍ نهائيّ بمطالب المُعارضة بالاستِفتاء أو مُصادقة الكنيست أو الاثنين، وهُناك مُؤشّرات أوّليّة أن المحكمة العُليا قد تُؤيّد رأي المُعارضة.
أوري أديري كبير مُفاوضي الجانب الإسرائيلي في مِلف ترسيم الحُدود مع لبنان أعلن استقالته احتجاجًا على إدارة لابيد للأزمة والمُفاوضات بشأنها، ويبدو أن هذه الاستِقالة جاءت بضَغطٍ من المُعارضة الليكوديّة، ولتعكير مِياه الاتّفاق، ومن غير المُستَبعد، وحسب آراء مُراقبين، أن تشهد الأيّام المُقبلة استِقالاتٍ مُماثلة.
هُناك انتِقادات في الجانب اللبناني أيضًا للاتّفاق في بعض الأوساط تُركّز على أنه بدايةُ التّطبيع، وجرى الرّد عليها فورًا من قِبَل السيّد أبو صعب بالرّفض المُطلَق، والتّأكيد، بأنّه لن يتم توقيع أيّ اتّفاق أو مُعاهدة مع العدوّ الإسرائيلي، التزامًا بموقف لبنان الثّابت بمُعارضة التّوقيع، وسيكون هُناك رد لبناني مُستقل، ولن تكون هُناك وثيقة تتضمّن تَوقيعًا لُبنانيًّا إلى جانب التوقيع الإسرائيلي.
هُناك عدّة مُلاحظات يجب التوقّف عندها في هذا المِلف قبل الخِتام:
الأولى: لم يتم الاتّفاق حتى الآن على الصّيغة النهائيّة على المُقترحات الأمريكيّة، واحتمالات العودة إلى المُربّع الأوّل، أيّ ما قبْل “الاتّفاق النّظري” ما زالت واردة.
الثانية: الضّامن الوحيد لهذا الاتّفاق هو أمريكا وفرنسا، وانهِيار مُفاوضات فيينا النوويّة جاءت لعدم ثقة طِهران بالضّمانات الأمريكيّة، وضرب المثَل بانسِحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتّفاق عام 2018 هو المُستَند الرّئيسي في هذا الصّدد، والشّيء نفسه يُقال أيضًا عن الضّمانات الأمريكيّة لاتّفاق أوسلو الذي جرى توقيعه في حديقة البيت الأبيض في 13 أيلول (سبتمبر) عام 1993.
الثالثة: لا يستطيع نِتنياهو إلغاء الاتّفاق طالما جرى اعتماده قانونيًّا، لكنّه يستطيع تقويضه إذا ما فاز في الانتخابات التشريعيّة المُقبلة (أوّل نوفمبر) فهو لم يستطيع إلغاء اتّفاق أوسلو الذي عارضه بشدّة ولكنّه منع تطبيقه، وأفرغه من مضمونه، وتفاوض ونُظرائه 30 عامًا على تطبيقه ووطّن في هذه الأثناء 800 ألف مُستوطن في القدس والضفّة المُحتلّين.
الرابعة: لا نستبعد أن تكون هذه الخِلافات الإسرائيليّة بين الحُكومة والمُعارضة مُجرّد مسرحيّة لكسْب الوقت، وخِداع اللّبنانيين، وامتِصاص تهديدات المُقاومة، وعلينا أن نتذكّر أن أمريكا الدّاعم الأكبر لإسرائيل، ولابيد من أكثر الإسرائيليين دعمًا لحربها في أوكرانيا، والمبعوث الأمريكي هوكشتاين إسرائيلي المَولِد، وخدم في الجيش الإسرائيلي ولا يُمكن أن يكون “عُشْر مُحايد”.
***
الضّمانة الوحيدة والموثوقة للبنان وثرواته النفطيّة والغازيّة وأمنه واستِقراره، هي المُقاومة الإسلاميّة المُمثّلة في “حزب الله” وترسانتها الهائلة من الصّواريخ الدّقيقة، والمُسيّرات المُتطوّرة، ومِئة ألف مُقاتل شَرِسْ مُستعدّين للشّهادة، وقِيادةٌ لا تهاب من اتّخاذ قرار الحرب، وهذه هي المرّة الأولى في تاريخ دولة الاحتِلال، ومُنذ قيامها، تُقدّم حُكومتها تنازلات تحت تهديد السّلاح وخوفًا من الحرب التي تُهَدِّد وجودها.
لا نُريد استباق الأحداث، والأيّام القليلة القادمة، ربّما هي الأخطر في تاريخ لبنان الحديث والمِنطقة، ولهذا يجب التحلّي بأقصى درجات الحذر، والتمعّن بكُل كلمة أو فاصلة في أيّ اتّفاق مُلزم، قبل التّوقيع، وعلينا أن نُعيد التّذكير بأنّ نِتنياهو “ضبْعٌ” من ورق، وتعرّض لهَزائمٍ مُهينةٍ جدًّا، على أيدي رجال المُقاومة في قِطاع غزّة، وأبرزها معركة سيف القدس.
مرّةً أُخرى نُؤكّد أن المُقاومة ذات النّفس الطّويل ستخرج الفائز الأكبر من هذا الاتّفاق سواءً في حالِ إنجازه أو انهياره، إنجازه لأنّها هي التي فرضته بالصّواريخ أو المُسيّرات، وانهياره لأنها جاهزة لكُلّ الاحتِمالات، والحرب على رأسها، وسيُسَجّل لها أنها أعطت الدّولة كُلّ الفُرص اللّازمة لاستِعادة الحُقوق اللبنانيّة سِلميًّا، ولن يلومها أحد إذا لجأت للقُوّة في حالِ فشَلِ هذا المسار.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية