كاتبة وكاتب.. وثالثهما الحب
يحفل الوسط الأدبي بثنائيات أدبية عديدة وعلاقات عاطفية دامت سنوات طويلة، بعضها استمر مراسلات أدبية ووجدانية ولم تتوج بلقاء أبدا، وبعضها انتهى نهاية مأساوية بالانتحار، وكثير من القصص انتهت بالانفصال والغياب والفشل، ولم يكتب النجاح لغالبية هذه العلاقات.
غير أنها وإن فشلت اجتماعيا وعاطفيا لكنها أنتجت مادة إبداعية شغلت النقاد والقراء وكانت تتنوع بين أكثر من جنس أدبي كالمراسلات التي دارت بين مي زيادة وجبران خليل جبران، وبين غادة السمان وغسان كنفاني، وكنتاج شعري كالذي كتبته سيلفيا بلاث وزوجها تيد هيوز، والكتابات الفلسفية التي أنتجتها علاقة جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار.
علاقات عاطفية كثيرة دخلت مساحة التواصل من باب واسع هو الإبداع واستندت إلى جدار الحب، تكسرت المشاعر على ذلك الجدار وتهاوت مثل نجم يائس لكن الباب ظل مفتوحا، مات الحب وظل الإبداع شاهدا يسجل كل تفاصيل الحالات النفسية التي مر بها الثنائي الأدبي.
الشاعرة والروائية الأميركية سيلفيا بلاث وزوجها الشاعر والمسرحي الإنجليزي تيد هيوز ثنائي جمعهما الشعر والحب، وخيمت على حياتهما الزوجية التي دامت سبع سنين الشقاء والبؤس، فقد حاولت بلاث الانتحار ثلاث مرات خلال حياتها القصيرة.
تعرفت بلاث التي ولدت في مدينة بوسطن الأميركية عام 1932، إلى هيوز الذي يكبرها بعامين، عام 1956 في حفلة أقامتها جامعة كامبريدج حيث يعمل هيوز، وحيث حصلت هي عل منحة دراسية.
وقعت سيلفيا بلاث في حب هيوز منذ اللقاء الأول، وسرعان ما دخلا معا قفصا من كآبة استمرت حتى نجاح المحاولة الانتحارية الأخيرة لسيلفيا بلاث، حين دست رأسها في فرن الغاز عام 1963، وماتت مسمومة بأول أكسيد الكربون إثر اكتشافها خيانة زوجها لها.
عاشت سيلفيا بلاث حياتها مع زوجها الشاعر البريطاني على مقربة من الموت يوميا، فهي التي تقول دائما” الموت حرفة..وأنا أتقنها بشكل استثنائي”، فقد كانت شخصية ذات نزعات سوداوية، تميل إلى الحس الكارثي بالأشياء شأنها شأن كل الشعراء الأميركيين، الذين اشتهروا بحياة مأساوية انتهت عند أكثر من واحد نهاية مدمرة، حتى أصبحت ظاهرة في الشعر الأميركي.
كان ديوان” الصقر تحت المطر” أول كتاب شعري لهيوز بعد زواجه، طبعته له بلاث على آلتها الطابعة وأعطت شاعرها اسم تيد هيوز بدلا من اسمه ادوارد جايمس هيوز، أما هي فقد كانت تنشر قصصها وأشعارها في المجلات والصحف قبل زواجها.
وقد انتهت من كتابة ديوانها الأول قبل انتحارها ببضعة أسابيع، وهو يبدأ بكلمة”حب” الكلمة الأولى من قصيدتها الأولى، وانتهى بكلمة”ربيع” في آخر قصائد الديوان.
حياتهما ابتدأت بحب لكنها لم تنته إلا بخريف مأساوي، حيث أثرت حادثة انتحارها على حياة الاسرة وبالتحديد على نفسية طفليهما، وأصبحت بلاث شهيدة الجنسوية، فقد طالت هيوز الانتقادات الكثيرة من الجمعيات المعنية بالمرأة وحقوقها والمنظمات الناشطة في هذا المجال، واعتبرته السبب في إقدامها على خطوة جريئة ومأساوية.
لقد انتحرت سيلفيا وتركت وراءها طفلين، ومجموعات عديدة من الشعر والقصص القصيرة وروايتين، واحدة لم تكتمل، بالإضافة إلى مذكراتها ورسائلها التي تحتوي على تفاصيل كثيرة لتاريخها النفسي والشخصي ومعاناتها اليومية في حياتها مع زوجها.
وهكذا حققت بلاث ما كانت تكتب عنه مرارا ومرارا، وأتقنت فعليا فن الموت، وكتبته تفاصيل صغيرة أخيرة كحلم رومانسي قامت بممارسته قبل انتحارها، فقد أعدت الحليب والخبز لطفليها، وسدت شقوق باب المطبخ بمناديل مبلولة حتى لا يتسرب الغاز إلى طفليها.
جمع هيوز أشعارها ونشرها بعد وفاتها، وظل ثلاث سنوات مصابا بحالة من الذهول والصدمة، ولم يستطع خلال هذه الفترة الصعبة من حياته أن يكتب حرفا، وجاء كتابه”حياة الغراب وأغانيه” متقصيا للآراء المختلفة حول فكرة إبليس والخطيئة.
صمت تيد هيوز طويلا أمام الاتهامات الكثيرة التي مني بها بعد وفاة زوجته، وأصر على عدم الرد على وصفه بقاتل زوجته، حتى عام 1998، أي بعد ربع قرن تقريبا من انتحار زوجته، حيث أصدر كتابه”رسائل عيد الميلاد”.
سجل هيوز في كتابه اعترافه ورأيه بالشعر”نعتقد أنّنا نكتب شيئاً نسلي به، لكننا في الحق نقول شيئاً نحتاج أن نشاركه الآخرين بيأس. السر الحقيقي هو هذه الحاجة الغريبة. لماذا لا نستطيع أن نخفيه وحسب ثم نسكت؟ لماذا علينا أن نهذر؟ لماذا يحتاج البشر إلى الاعتراف؟ ربما، لأنك إن لم تقم بذلك الاعتراف السري، فلن تكون عندك قصيدة، لن تكون هناك حتى قصة، لم يكن هناك حتى كاتب”.
تقمص هيوز حبيبته من خلال اللغة في هذا الكتاب، وعاش معها الحياة مرة أخرى ابتداء من لقائهما الأول في الجامعة، مرورا برحلاتهما إلى بلدان كثيرة، واللحظات الحميمة التي عاشاها، والأيام المجنونة التي مرا بها بتأثير مزاج بلاث الكئيب، وانتهاء بصدمته الكبرى فجر انتحارها في يوم بارد جدا من أيام شباط.
كان الموت هو هدية عيد الميلاد التي قدمتها له بلاث في قصيدة مشهورة وجهتها لزوجها بعنوان”هدية عيد الميلاد” أنكرت فيها نيتها في الانتحار، مع أنها أوحت بذلك في هذا المقطع:
أعرف لماذا لا تريد أن تعطيني إياها
إنّك خائف.. فالعالم سينفجر بصرخة، رأيتك معها،
مزّيناً، متخوماً، كدرع عتيق
أعجوبةً لأحفادك
لا تخف، فالأمر ليس هكذا.
ميدل ايست أونلاين