تاريخ

كتاب ديفيد هيل عن العلاقات الأميركيّة – اللبنانيّة: هُزال التخصّص [4]

أسعد أبو خليل

لا يزال الحديثُ هنا عن كتاب ديفيد هيل الجديد، «الديبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان: دروس في السياسة الخارجيّة والشرق الأوسط» (صدر الكتاب تزامناً في ترجمة عربيّة لكن هذه المراجعة تعتمدُ على النسخة الإنكليزية). يفضحُ ديفيد هيل عمقَ جهلِه بالتاريخ اللبناني المعاصر.

 

يقول إن المسلمين بعد «ثورة 1958» كانوا راضين عن توزيع السلطة والمغانم بين الطوائف. لو كان ذلك صحيحاً لما اندلعت الحرب بعد سبع عشرة سنة. يظنّ أن جلَّ مطالب المسلمين (حتى لا نتحدّث عن سائر أطراف المعارضة المتعدّدة الطوائف آنذاك – حتى البطريرك الطائفي، بولس المعوشي، عارضَ شمعون) انحصرت بعدم التجديد لشمعون. لكنه يعترف أن أميركا لم تستعمل نفوذها المستجدَ في لبنان بعد 1958 لخلق نظام أكثر عدلاً وتوازناً. كانت مشغولة بمحاربة الشيوعيّة في الاتحادات العمّالية وبمطاردة النقابي مصطفى العريس. يقول إن عهد فؤاد شهاب امتدَّ ليشملَ عهد شارل حلو. لا يعلم خبيركم الأميركي أن شهاب قاطعَ الحلو في سنتيْه الأخيرتيْن وأن الحلو كان في صف المعادين لشهاب، مثل الحلف الثلاثي. بعد انتصار الحلف في انتخابات 1968، قرَّرَ شهاب – وعن حقّ – أن حلو التحق بأعدائه.

يتحدّث عن الفدائيّين الفلسطينيّين فيأخذ بسرديّة الانعزاليّين من أصحابه في حركة 14 آذار ومن لفَّ لفّها ولفيفها. يعترف أن قوة صهيونيّة خرقت الحدود اللبنانية في 1938 لـ«الإغارة» على القرى اللبنانيّة التي تدعم الثوّار الفلسطينيّين في الثورة الفلسطينيّة الجارية آنذاك. ويعتمد في تاريخ العلاقة بين لبنان وإسرائيل على شهادة صديقه الصهيوني الأميركي، فريدريك هوف، فيسوِّغ احتلال 18 قرية جنوبيّة. هذه من ضرورات الأمن الإسرائيلي. وبوقاحة يزعم أن الحدود بين لبنان وفلسطين بين عامي 1949 و1967 كانت هادئة. هي كانت هادئة لو تجاهلتَ سلسلة طويلة من الاعتداءات الإسرائيليّة على قرى جنوبيّة وعمليّات خطف لبنانيّين واعتداء على طائرة مدنيّة لبنانيّة بالإضافة إلى تهديدات متواصلة للحكومة اللبنانيّة (ينشر الموقع الصديق «الأرشيف اللبناني» توثيقاً لتلك الاعتداءات في «الزمن الجميل»). الحكومة الإسرائيليّة أمرت الحكومة اللبنانيّة في عهد شارل حلو (صاحب شعاري «قوّة لبنان في ضعفه» و«علاقات لبنان الديبلوماسيّة والشعريّة بالفرنسية تنقذ لبنان») بوقف أعمال الضخّ على نبع الوزّاني. ولا يخبرنا هيل أن حكومة شارل حلو رفضت في عام 1965 عروضاً من أجل حماية نبع الوزّاني (واستعانت الحكومة اللبنانيّة بذرائع كاذبة لرفض عرض الحماية العربين ما أغضب الحكم المصري في حينه). وينسى هيل الاعتداء الإسرائيلي على طائرة لبنانيّة مدنيّة في 24 تمّوز 1950. يذكّر فقط بعمليّة قصف فدائيّين لطائرة إسرائيليّة في أثينا في 1968. يذكّر بذلك كي يبرّر عمليّة قصف مطار بيروت وحرق كل طائرات لبنان المدنيّة (يقول إن العمليّة كانت من أجل «إجبار الحكومة اللبنانيّة على السيطرة على الفلسطينيّين»).

وفي اعتماده على كتاب جيمس ستوكر، «ميادين التدخّل: السياسة الخارجيّة الأميركيّة وانهيار لبنان، 1967-1976»، يذكر كيف أن قائد الجيش، إميل بستاني، طلب «ضمانة» أميركية للسيطرة على المعارضة الموالية للفلسطينيّين في لبنان. هذه كانت سيادة لبنان في «الزمن الجميل» عندما كان قادة الجيش يطلبون أوامر أميركيّة، وينسّقون مع إسرائيل ضد العمل الفدائي واليسار. ويذكر من الكتاب أيضاً الطلبات المتكرّرة للتسليح من قبل زعماء الموارنة، لكنه لا يذكر أن الوثائق تذكر فقط جانب وزارة الخارجيّة ولا تذكر عمليّات التسليح التابعة للمخابرات الأميركيّة. وعن السيادة اللبنانيّة، يذكر أن عمليّات القصف الإسرائيلي التي تلت عمليّة «معالوت» في 1974 آثارت الحكومة اللبنانيّة التي آدانت تقديم شكوى ضد إسرائيل في مجلس الأمن. لكن ريتشارد نيكسون طلب شخصيّاً من سليمان فرنجية الامتناع عن تقديم شكوى (من أجل عدم إحراج إسرائيل) واستجاب فرنجية لطلبه، وبقيت العمليّات الوحشيّة الإسرائيليّة من دون شكوى. عليكم أن ترتابوا كلما امتنعت حكومة لبنانية، في أي عهد، عن تقديم شكوى ضد إسرائيل في مجلس الأمن. يكون ذلك دائماً بطلب من الحكومة الأميركيّة، ولصون سمعة إسرائيل.

عن «مبادرة روجرز» يقول «الخبير في شؤون الشرق الأوسط» إن الجانبيْن العربي والإسرائيلي رفضاها بالحدّة نفسها. لم يعلم صاحبكم أن جمال عبد الناصر تعرّض لحملة تخوين شديدة من قبل المقاومة الفلسطينيّة بسبب قبوله بمبادرة روجرز. كيسنجر نفسه عارض المبادرة وعطّلها بإيعاز من اللوبي الإسرائيلي. يذكر عمليّة ميونيخ من دون أن يذكر أن عمليّات قصف وحشيّة ضد المخيّمات الفلسطينيّة سبقت العمليّة لا بل هي التي أجّجت جمهور المقاومة للقيام بعمليّة ردّ عليها. يقول إن الاشتباكات بين المقاومة الفلسطينيّة والجيش في 1973 أقنع قادة المقاومة أن حمايتها تتطلّب «تورّطاً نشطاً في السياسة اللبنانيّة». وهذا تحليل مبسّط لأن اللبنانيّين (اليسار وحلفاءهم) هم الذين كانوا يريدون تورّط المقاومة الفلسطينيّة إلى جانبهم وكان ياسر عرفات يقاوم هذه الطلبات.

يذكر عَرَضاً زيارة هنري كيسنجر إلى مطار رياق ويقول إن محاوريه كانوا «متحضّرين». الرجل الأبيض وحده يقيّم أو يقيس حضارة الملوّنين. يذكر بتفصيل عمليّات المقاومة الفلسطينيّة لكنه لا يذكر عمليّات القصف والقتل الوحشيّة التي يرتكبها الإسرائيلي قبل ذلك. وفي فترة الحرب الأهليّة، عندما دعم النظام السوري القوى الانعزاليّة المتحالفة مع إسرائيل، قامت الحكومة الأميركيّة بتقديم معلومات استخباراتية عن شحنات سلاح سوفياتيّة لمصلحة منظمة التحرير. وكانت الحكومتان، السوريّة والأميركيّة، تتباحثان في شأن الحرب ضد منظمة التحرير. ويحلّل دور ياسر عرفات في الحرب قائلاً: إنه «كان يلجأ إلى العنف كي يثبت راهنيّته». لكن عرفات، مع عيوبه التي لا تُحصى، كان يجهد للنأي بالمقاومة الفلسطينية عن الحرب الأهليّة ولم يكن يقطع صلات الوصل مع ميلشيات اليمين الانعزالي. وعن اجتياح 1978 المنسي، يرفض هيل أن يدينه وينقل عن كارتر اعتباره له بأنه «رد فعل مبالغ فيه بصورة فظيعة» (قتلت إسرائيل في هذا الاجتياح أكثر من 1000 لبناني وفلسطيني وهجّرت أكثر من مئة ألف لبناني وفلسطيني).

أما عن دور الحكومة الأميركيّة والإسرائيليّة في إشعال الحرب الأهليّة واستمرارها، فهو يبرّئ حكومتيْه من التهمة الشائعة. يقول إن لبنان كان هامشياً بالنسبة إلى أميركا. لكن هل كان هامشياً بالنسبة إلى إسرائيل؟ وإذا لم يكن هامشياً، فلماذا قامت أميركا بتسليح وتمويل الميلشيات اليمينية التي أشعلت الحرب الأهليّة وأدامتها؟ الوثائق الأميركيّة المتوافرة تؤكّد أن أميركا وإسرائيل كانتا ضالعتيْن في شحن الأجواء التي سبقت الحرب وأنه كان هناك مؤامرة ليس فقط ضد منظمة التحرير وإنما ضد اليسار اللبناني والعربي. كان جنرال أميركي متواجداً على كوع الكحّالة قبل الحرب الأهليّة، عندما كانت قوّات الكتائب تستفزّ المقاومة الفلسطينيّة أثناء مرور قوافلها في الطريق. الحرب الأهليّة كانت جزءاً من إدارة الحكومة الأميركيّة لمنطقة الشرق الأوسط لمصلحة إسرائيل. وهيل يذكر التدخّل العسكري السوري ولا يذكر الاحتلال الإسرائيلي. لا بل هو يقول إن التدخّل العسكري السوري والحرب الأهليّة جلبت «مشكلات أمن قومي» لإسرائيل كأن إسرائيل لم تكن طرفاً مباشراً في الحرب منذ ما قبل اندلاعها. ويزعم هيل أن قادة المقاومة الفلسطينيّة «ابتلعوا» لبنان فيما لم تكن منظمة التحرير لتقبل بأي قطعة من لبنان بديلاً من فلسطين. لو أن عرفات قبل بلبنان بلداً بديلاً، لما اندلعت الحرب ولما استمرّت.

عن العدوان الإسرائيلي على لبنان في السبعينيّات والثمانينيات، يصفه كما يلي: «إن استعمال منظمة التحرير للقرى الجنوبيّة استدعى بعض الردود الإسرائيليّة ضد الشيعة اللبنانيّين المغلوبين على أمرهم». طبعاً، كان هناك مدة انضوى فيها شيعة الجنوب في صفوف المنظمات الفلسطينية وتلقوا رواتب منها. المجازر الإسرائيليّة مبرّرة عند هيل. ودفاعه عن إسرائيل هو دفاع المتعصّب الأهوج. يسخر من السفير الأميركي في بيروت، جون غونتر دين، لأنه فضح محاولات اغتياله من قبل إسرائيل. هيل يقول إن ذلك نوع من «البارانويا». يصف أرييل شارون بـ«الرؤيوي». واجتياح لبنان الوحشي في 1982 كان جزءاً من هذه الرؤية. وفي ذكر محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن في 1982، لا يبدو أن الخبير هيل يعلم أن منظمة أبو نضال لم تكن جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينيّة، أو أنها كانت على عداء دموي معها. وعن حصار بيروت، يريد هيل من القارئ أن يظنّ أن المدينة لم تكن تحتوي سكّاناً مدنيّين: فقط «آلاف المقاتلين من منظمة التحرير ومقاتلين سوريّين». أزال المدنيّين من الوجود والحسبان كي يتسنّى لإسرائيل قتل من تشاء هناك.

وعن الوعود الأميركية الكاذبة، يقول هيل إن نائب الرئيس الأميركي، جورج بوش، أبلغ الملك خالد في 16 حزيران 1982 أن الحكومة الأميركيّة ستمنع إسرائيل من دخول بيروت. هذه مثلما منع جو بايدن أخيراً إسرائيل من دخول رفح. أما عن فيليب حبيب، فهو يؤكّد انحيازه ضد العرب من بني جلدته. يقول إن كان يؤيّد الضغط العسكري الإسرائيلي على منظمة التحرير ولكنه لم يؤيّد القصف العشوائي العنيف. يا لإنسانية هذا الأميركي ذي الأصل اللبناني (كانت جريدة «النهار» تتحفنا بأخبار تلذّذه بأكل أطباق الكبّة). لا يكترث هيل للجانب «الإنساني» من عواقب العدوان الإسرائيلي. ما همَّه في تقييم الاجتياح أنه أضرّ بمصلحة إسرائيل وأميركا. يستشهد بمذكرات ريغان حيث يعترف أن مناحيم بيغن أبلغه، للمرّة الثانية، بأن لا يتدخّل في ما لا يعنيه عندما حاول أن يضغط على إسرائيل للتخفيف من وحشيّتها. ريغان استعمل وصف الهولوكست لما فعلته إسرائيل في لبنان ولكن ذلك لم يُترجم سياسيّاً بالضغط الفعلي على إسرائيل. ومن دون عناء، يستشهد هيل دائماً بكتب أخرى في التعليق على السرد الزمني. يذكر أن المؤلّف سيث أنزيسكا استخلص من دراسة وثائق حقبة صبرا وشاتيلا أن المسؤول الأميركي، موريس دريبر (وكان قريباً جداً من عصابات القوات اللبنانيّة) كان على علم بالوجود الحصري للمدنيّين في صبرا وشاتيلا.

ويصل إلى مرحلة مفاوضات 17 أيار فيقول إن المسؤولين اللبنانيّين الذين كانوا ضالعين فيها هم الجميل وشفيق الوزان وغسان تويني. طبعاً، لم يكن لشفيق الوزان (أضعف رئيس حكومة في تاريخ الجمهورية) أي دور. وهو اعترف لي في منتصف الثمانينيات بـ«أنهم لم يكونوا يطلعوه على أي شيء». لكنهم وجدوا وسائل إقناع روحية لضمان سكوته. ويعبّر عن استغراب الحكومة الأميركية لسرعة توصّل حكومة أمين الجميّل لاتفاق مع إسرائيل ولتقديم تنازلات لم تكن الحكومة الأميركية ترى أنها ضرورية. يقول إن حبيب ذُهل من اتفاق الجميل مع إسرائيل من وراء ظهر الحكومة الأميركية. لكن حبيب علم أنه لا يمكن لأي حكومة أميركية أن تعارض أي اتفاق سلام بين حكومة عربية وإسرائيل، حتى لو أنه كان لها اعتراضات عليه. أي إن الجميّل ذهب أبعد من سقوف اللوبي الإسرائيلي في إرضاء إسرائيل. إنه «العنيد» كما يقولون عنه.

(يتبع)

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى