كريم جمال يقتفي أثر «أمّ كلثوم وسنوات المجهود الحربيّ»
ي مهبّ العمل الوطني، قبيل وبعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 التي انتهت بإعلان جمال عبد الناصر قراره بالتنحي عن السلطة في خطابه المشهور، ورفض الشارع المصري والعربي هذا القرار، لتنتصر العاطفة على العقل، فيما ستسرف أم كلثوم في الدفاع عن السلطة من موقعها كسلطة فنية موازية، متجاهلة أسى الهزيمة وخيبة الشارع، سواء في الأغاني الحماسية أو الدعاء اليومي في الإذاعة لاستعادة الثقة بالجيش المهزوم. نحن إذاً إزاء حرب من نوع آخر. حرب الصوت. سطوة خطابات عبد الناصر من جهة، وسطوة أغاني أم كلثوم من جهةٍ ثانية. فوق هاتين السكّتين عبر قطار الحلم نحو زمنٍ آخر محمولاً على النخوة الشعبية، عن طريق الحملة التي قادتها أم كلثوم لجمع التبرعات طوال ست سنوات، شرقاً وغرباً. على الأرجح، فإنّ المطربة الأيقونية، أرادت أن تمحو أثر البلاط الملكي من سجلّها، والانتساب إلى خطاب الحقبة الجديدة بأقصى طاقتها على الحضور. وإذا بليلة الخميس من كل شهر تتحوّل إلى موعدٍ مقدّس، مشبع بالآهات والنشوة المطلقة، فوق خشبة المسرح، وعبر أثير الإذاعة، فأمّ كلثوم وحدها من يجمع التناقضات: الذكورة والأنوثة، الدنيوي والمقدّس… وستصبح ليلة الخميس من أول كل شهر، موعداً استثنائياً في زمن الراديو، لتطوى صفحة الفونوغراف الذي لم يكن متوافراً للعوام. صوت الراديو عبر الأثير وحده يحقق نشوة الاستماع الجماعي، في ديموقراطية غير مسبوقة. صور الأرشيف التلفزيوني لحفلاتها، بالأبيض والأسود، تكشف عن حنين لأسطورة تتماهى في أرواح جمهورها مثل وشم لا يُمحى.
في سنوات المجهود الحربي، طافت أمّ كلثوم بين المدن المصرية في حفلات متتالية، يعود ريعها للجيش بمعاضدة صريحة من أركان السلطة. فالصورة هنا، تبعاً للوثائق الغزيرة، لا تتعلّق بحفلة غنائية، أو سفيرة غناء، إنما بقوة حضور الشخصية، واختراقها الأسوار المنيعة، بوصفها هرماً رابعاً من أهرامات مصر التاريخية، منذ أن كانت رفيقة وحدة جمال عبد الناصر بصوتها، في حصاره المشهور داخل أحد المعسكرات الحدودية، وصولاً إلى انضمامها إلى أسرته كصديقة مقرّبة من العائلة، أو أن تقابل عبد الحكيم عامر برفقة محمد حسنين هيكل للاطّلاع عن كثب على أحوال الجيش. كأنها معسكر موازٍ، فكل حفلة تقيمها، كانت بمثابة معركة نظراً إلى حال الاستنفار والجيش الجرّار الذي يرافق الحدث، في الإذاعة والصحافة، وآهات الجمهور في المسرح. هكذا كانت تتبادل الأدوار مع عبد الناصر، فأغنيتها توازي خطابه في قوة التأثير، وكلاهما يُبث على الهواء مباشرة!
وحين مات عبد الناصر، أعلنت أم كلثوم اعتزالها الغناء، فصوتها وحده لم يعد كافياً لاجتياز الهزيمة، أو لم يعد الغناء مجدياً بغياب الملهم. ربما كان علينا أن نلتفت إلى ألغاز المعادلة. خطاب ثوري بلا رصيد فعلي من جهة، وأغاني عشق وتنهّدات وارتباكات عاطفية لم تعد مقنعة من حنجرة متعبة، فكان على أم كلثوم أن تسدل الستارة على تاريخ طويل من المجد الشخصي، فالفتاة التي كانت ترتدي العقال أثناء مغادرتها قرية طماي الزهايرة، وترتحل على حمار من نجع إلى آخر، لم تتخلَّ عن «ذكوريتها» فعلياً لجهة السطوة، كأن ذكوريتها هذه جزء من سطوة صوتها وحضورها، إلى درجة توارت فيها الأنوثة إلى منطقة سرية مبهمة، خاصة بها وحدها، وتالياً الثأر من ذلك السجلّ القديم باستبداد مضاد يتجاوز جمال الصوت إلى السلطة المطلقة بما يوازي استبداد عبد الناصر نفسه، من موقعٍ آخر. مواكبة رحلة «كوكب الشرق» إلى باريس والغناء في مسرح «الأولمبيا»، تنطوي على سطوة من نوع آخر، إذ يشرح ثروت عكاشة لكوكاتريكس مدير المسرح الفرنسي أهمية أم كلثوم: «إنها مطربة عظيمة… إنها من نسل النبي محمد، وتغني أول خميس من كل شهر، وإن العرب يحجزون تذاكر حفلاتها قبل موعدها بسنتين، فالمسلمون يذهبون للحج إلى مكة، ويأتون إلى سماع أم كلثوم في القاهرة». هنا تتجاوز الصورة الإطار الضيّق نحو فضاء روحاني يضع صاحبته في مقام القدّيسين، ما يذهل كوكاتريكس ويجعله يوافق على الشروط الصارمة لهذه المغنّية التي سيشبّه الفرنسيون بعد سماع صوتها، بصوت أديث بياف. هنا ستكتمل عمارة الأسطورة، بزحف الآلاف إلى شباك التذاكر بقوة الحنين إلى هذه المعجزة، حتى إنّ أحد المعجبين صعد إلى الخشبة وقبّل قدميها، ما أدى إلى وقوع أم كلثوم على الأرض، وتدخّل البوليس لإبعاد هذا المجنون. لم تكن حفلة غنائية إذاً، بقدر ما كانت خطاباً سياسياً مضاداً للحضور الصهيوني في فرنسا، وتصحيحاً لصورة العرب ما بعد الهزيمة.
وعلى المقلب الآخر أفردت الصحف المصرية عشرات المقالات التمجيدية عن تلك الرحلة التاريخية لسفيرة عبد الناصر إلى العالم، ونجاحها في تظهير صورة جديدة عن بلادها. في المغرب، سيتكرر المشهد بالعنف البصري نفسه، سواء بزحف الحشود إلى المطار، أو الرعاية الملكية للحفلات، إلى بثّ الحفلات على هواء التلفزيون المغربي، ومنح موظفي المؤسسات الحكومية إجازة رسمية من أجل حضور الحفلة، و«محالّ مصفّفي الشعر فتحت أبوابها من الخامسة صباحاً حتى تنعم سيدات المغرب بلقاء أم كلثوم في أبهى حلّة، حُجزت جميع الطائرات القادمة إلى الرباط قبل الحفل بأسبوع». وسيحدث الدوي نفسه في الكويت وتونس والسودان وليبيا وبعلبك. في مطار بيروت، ستُعلن حالة الطوارئ نظراً إلى ازدحام المطار بالطائرات التي نقلت معجبي الأيقونة من كلّ أنحاء العالم العربي لحضور حفلتها في مدينة بعلبك «على طول الطريق من بيروت إلى بعلبك، نُصبت أكثر من مئتي صورة ضخمة للسيدة أم كلثوم ترحيباً بها، وكذلك وُضعت الميكروفونات حول الهياكل التاريخية حتى يتسنّى لكل لبناني لم يقدر على شراء تذكرة أن يسمع صوتها تماماً مثل من حالفهم الحظ وتمكنوا من الحصول على التذاكر». وأثناء وجودها في موسكو، بلغها نبأ موت جمال عبد الناصر عام 1970، فاعتزلت في غرفتها حتى يوم الجنازة، ثم علّقت بقولها: «لقد أصبحنا أيتاماً من بعده».
هكذا عاشت محنة قاسية لا تقل ثقلاً عن محنة الهزيمة، وقرّرت أن تعتزل الغناء، في صورة موازية لتنحي عبد الناصر، وسيقنعها الآخرون بخطأ قرارها كي لا ينطفئ الأمل الذي ناضل من أجله الزعيم الراحل. لعل أهمية هذا الجهد الاستقصائي تكمن في إتاحة مادة خام لكل من يسعى إلى تفكيك هذا اللغز أو اللغم، وقراءة سنوات اليأس والخذلان والحلم بمنظار سيسيولوجي في المقام الأول.