كفر الهوى” تشير إلى أن الفيسبوك يهدد الأمن القومي للعرب

 

تتعرض رواية “كفر الهوى” للأديب والباحث الاقتصادي صلاح شعير – والصادرة عن دار يسطرون للطباعة والنشر بالقاهرة عام2019 – إلى الكثير من القضايا التي تهم المجتمعات العربية، وقد استطاع الروائي صياغة النص الأدبي في قالب روائي فني مشوق وممتع، وأن ينكأ الكثير من جراح المجتمع، وأن يحلل الكثير من ظواهره تحليلا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا ونفسيًا واعيًا، دون أن يطغى كل هذا على جمالية الفن الروائي، وتنتمي هذه الرواية لما يسمى بالواقعية السحرية؛ حيث تمتلئ بعبق أجواء الريف الساحرة، والأحداث الواقعية، والشخصيات المتناقضة.

 وقد تمكن الكاتب من تطريز منتجه الثقافي بالمضامين المهمة والشائكة، ببعض مشاهد الحب النبيل بين غريب وكل من رجاء المصرية وماري الإيطالية، وأيضًا برزت الصورة المقابلة للحب الانتهازي الذي جمع بين كل من: سعيد بك، وسرحان، ودياب مع فاتن اللعوب، حيث الشهوة الحرام في المال والجنس، وهذه الصور المتناقضة صنعت دراما حيّة ومادة جاذبة؛ حيث تم صياغة الحبكة بطريقة محببة، وأهم ما يلفت النظر هو تحليل المشاعر الإنسانية تحليلاً نفسيًا واعيًا.

ولقد جاءت الرواية ثرية بالكثير من المضامين المهمة، والمجدولة بقوة في قالب فني بديع، ويمكن التدليل على ذلك بتناول بعض تلك المضامين للرواية كما يلي:

القيم الأخلاقية: تحفل الرواية بالعديد من القضايا المتنوعة التي يقتحمها المؤلف وينكأ من خلالها جراح المجتمع؛ حيث يواجه الكاتب – بقوى الفن الناعمة، وسرد فني جذاب – العديد من الموضوعات منها:

* التحذير من الانحدار في القيم الاجتماعية والأخلاقية والجمالية.

* انتشار الخرافات في المجتمع، وتفشي الشائعات والأوهام، وغياب الحقيقة، وسيطرة الإعلام المضلل عبر بعض الفضائيات الخاصة (ص 5،6).

* برز تناول القيم الأخلاقية من خلال المقارنة بين الشخصيات الفاضلة والشريرة، والمقارنة بين صورة القرية في الماضي والحاضر، قديمها وحديثها، عاداتها وتقاليدها التي انحدرت وساءت عما ذي قبل.

مشاكل المجتمع: تعرضت الرواية لبعض المشاكل الاجتماعية المهمة مثل: سوء الخدمات الصحية، وانتشار البطالة والهجرة غير الشرعية للشباب (ص 22-23).

كذلك التحذير من تنامي ظاهرة الإدمان، وخاصة مخدر البانجو الذي يدمر العقول بوصفه في متناول الفقراء والشباب معًا؛ وذلك بسبب رخصه ثمنه المقترن بكثرة أضراره (ص 55).

يدعو المؤلف المجتمع إلى رفض العادات والتقاليد البالية القائمة على الخرافات، والمأثورات الشعبية السلبية، كالموالد وحلقات الذكر والاعتقاد في الكرامات وتقديس الأضرحة، وقد ضرب لنا مثلاً بضريح الشيخ غريب الذي هو في الأصل ضريح لحمار (الشيخ جحش) (ص 74-75) حيث يحج إليه بعض أصحاب الحاجات طالبين منه العون، أو دفع الضرر، كل هذا يتطلب منا مواجهة ما يعيشه المجتمع من تغييب للوعي الثقافي والديني، فمازال هناك من يربط حاضره ومستقبله بما يسود من خرافات، وقد طرحت هذه المعاني بشكل رمزي يشبه لسعات النحل، لعل الشفاء يأتي عندما تأخذ مجتمعاتنا بزمام العلم والعمل (ص81).

مرض العصر: تتناول الرواية أهم أمراض العصر الحديث وخاصة ظاهرة إدمان الإنترنت، كذلك تحول المجتمعات العربية وعلى رأسها القرية المصرية إلى مستهلك سلبي للتكنولوجيا؛ حيث يتم تسويق الوهم والشائعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتلك القضية تهدد الأمن القومي للعرب، لأن مجتمعاتنا غير مؤهلة للفرز بسبب فشل منظومة التعليم في بناء العقل العربي لمواجهة ما يبث من غير الفرز النوعي للمعلومات؛ لتحديد ما هو حقيقي وما هو مدسوس، وتلك العملية أكبر من قدرات العقول التي تم بناؤها وفقًا لطريقة الحفظ والتلقين في المدراس والجامعات.

وقد عرض لنا الكاتب الفرق بين ثقافة الغرب منتج التكنولوجيا الرقيمية حيث الصراحة مع النفس هي الغالبة، وهذا عكس ثقافتنا في الشرق المستهلك للتكنولجيا بغرض تعزيز المتناقضات في شتى المسائل الأخلاقية؛ وشاهدنا ذلك من خلال نموذج الوفاء في مشاعر الحب كقيمة إنسانية من قبل الإيطالية ماري مع غريب المصري لأنها تحبه بصدق، بينما أدى فشل فاتن في إقامة علاقة محرمة مع غريب إلى التآمر عليه للانتقام منه، هناك حب مقترن بالوفاء وآخر مقترن بالغدر، وشتان بين الحالتين، وتلك المقارنة بين مفهوم الحب في الثقافتين، ربما تنسحب على معظم القضايا.

التكنيك وتقنية السرد: إن قدرة الكاتب على مناقشة كل هذه القضايا في سرد فني محكم لدليل على ثراء تجربته الإبداعية وتمكنه منها ورسوخها لديه؛ فقد جاء السرد سلسًا، موظفًا ضمير الغائب غالبًا، والذي يمثله الراوي المراقب للأحداث غير المتحكم فيها، وأحيانًا يلجأ الكاتب لتقنية الفلاش باك عند الضرورة، كما حدث في الفصل الخامس؛ حين استرجع غريب ما حدث له في البحر خلال هجرته غير الشرعية لإيطاليا، وتعرضه للموت المحقق.

كانت بداية الفصول غالبًا بجمل وصفية بسيطة، لكن نهايتها دائمًا تنتهي بطريقة مشوقة، وعقدة قوية؛ لتسلم الفصل إلى ما يليه، في تماسك وترابط، وقد وضعنا الكاتب في الفصل الأخير في صراع التفضيل والتمييز بين المثل الأخلاقية، والرغبات الشخصية، وبين الإيثار والذاتية؛ لتتصاعد الأحداث نحو العقدة ومن ثم الحل، في الصفحات من 111- 120 الفصل التاسع عشر والأخير.

من المرات القليلة التي تأتي فيها نهاية الرواية متدرجة على مرحلتين؛ فجزء منها في الفصل 18؛ حيث التخلص من الشر، وجزء منها في الفصل 19؛ حيث الانتصار عليه وعلى النفس، وقد جاءت النهاية سعيدة، لتجربة إنسانية فريدة بين “ماري” و”رجاء” و”غريب” عنوانها الانتصار على النفس، وإسعاد الآخرين، مثلما سعدنا نحن بقراءة الرواية.

تميزت الرواية بتماسكها؛ حيث استطاع الكاتب الحفاظ على عنصر التشويق، وقوة خيط السرد من البداية حتى النهاية؛ ففي الفصل 18 وعنوانه “اللعب على المكشوف” تصاعدت الأحداث نحو الذروة، والتشويق، وزاد من متعة القارئ براعة الكاتب حين تخلص من فاتن وسرحان بطريقة طبيعية، ودون تدخل منه؛ حيث سمح بهروبهما، ولم يشأ أن يتدخل بأن يقبض عليهما أو يفتك بهما بيد الأهالي.

الشخصيات والأحداث: رسم الكاتب شخصياته بدقة، وقدرة على النفاذ إلى معالمها الداخلية وخصائصها النفسية؛ فمثلاً “حميدة” يصفها وصفًا ممتعًا (ص 5-6)، وكذلك وصف رجاء الفقي (ص 18).

أما اختياره لأسماء أبطال الرواية فجاء مناسبًا ومعبرًا ومقصودًا، ومفيدًا في استكمال رسم الشخصية؛ فمثلاً: العمدة الجشع “دياب النمر”، تاجر المخدرات “فهد السكران”، “سرحان الأعسر” وملامحه الإجرامية، “فاتن” الفاتنة اللعوب، العمدة الطيب “حسونة الفقي”، وابنه الشريف “شريف”، وكذلك في اختار المستفيدين من نذور ضريح “الشيخ غريب” لص المواشي “بيومي الزفر”، “الحانوتي عبدالدايم”، الخمورجي “كعبول النعسان”، كذلك استخدام المومسات وبنات الليل في الأعمال الدنيئة ضد الخصم، كما في حكاية فاتن ودلال الطويل (ص 69).

اللغة والأسلوب: تميزت الرواية بأنها كتبت بلغة فصيحة صحيحة سهلة وبسيطة، بها جمال السهل الممتع الممتنع؛ نرى ذلك مثلاً في أول (ص 14) في وصف دياب النمر: “ورغم عوار أصله؛ جبر المال نقيصته”، كذلك حيادية المؤلف في اختيار الصيغ الأسلوبية، كما في هذه العبارة: “وحتى الآن لا يعرف أحد لب الحقيقة سوى دياب نفسه” فاستخدام الاستثناء المفرغ هنا بـ لا وإلا؛ يؤكد المعنى ويبقي المؤلف محايدًا تجاه الأحداث.

الصور الجمالية: تتميز الرواية بجمال الصور الفنية وثرائها الوصفي، فنجد الكاتب مثلاً يستخدم الألوان البديعية المعتمدة على المقابلة والطباق كما يحدث في الشعر، كما لاحظنا لجوء الكاتب أحيانًا للتشبيه التمثيلي والتشبيهات المركبة، واستخدام الأضداد في بعض عناوين الفصول للإشارة إلى محتواها كما في الفصل13 (ص 88) “النبل والخسة”، فصل 7 (ص 46) “العشق والتخاطر”، فصل8 (ص 55) “الحقيقة الغائبة”.

وسوف يكتشف القارئ بعد رحلة من المتعة أن هذه الرواية نجحت في مناقشة أوجاع مصر والعرب، بيد أن اللافت للنظر أن كل تلك القضايا الشائكة تم معالجتها في جو من الحب والرومانسية وأحيانا الكوميديا.

 

 

ميدل إيست اون لاين

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى