فجرّ وزير الخارجية الأمريكيّ الأسبق هنري كيسنجر في مقابلةٍ نادرةٍ مع صحيفة (معاريف) العبريّة، قنبلةً من العيار الثقيل عندما كشف النقاب عن كواليس ما حدث خلال حرب عام 1973، مُشدّدًا على أنّ الهدف الرئيسيّ من المساعدات الأمريكيّة للكيان كان بهدف منع أيّ انتصارٍ عربيٍّ وحماية المصالح الأمريكيّة ومنع الاتحاد السوفيتي من تسجيل نصرٍ على واشنطن في الشرق الأوسط، لافتًا إلى أنّه في البداية اعتقدنا بأنّ الجيش الإسرائيليّ سيُدمِّر الجيشيْن العربييْن السوريّ والمصريّ، خلال ساعاتٍ، إلّا أنّه عندما اتضحّت الصورة فوجئنا بحجم الإنجازات العربيّة، مؤكِّدًا أنّ الأمريكيين اعتقدوا أنّ مصر وسوريّة أجبن من الهجوم على الكيان.
وطبقًا لأقواله “لم ينشأ الخوف من اندلاع حربٍ فعليةٍ سوى يوم الخامس من تشرين الأول (أكتوبر)، حيث أمر الكرملين الدبلوماسيين وعائلاتهم بالعودة إلى منازلهم في موسكو، فيما شهدت لندن في وقت مبكر من المساء وصول رئيس الموساد تسفي زامير بشكل غير متوقع للقاء (الملاك)، لقب العميل المصري أشرف مروان، وقبل 14 ساعة فقط من اندلاع الهجوم في سيناء والجولان، حمل مروان الخبر الذهبي عن (ساعة الشفق)، وتنسيق الهجوم الشامل بين السادات والأسد“.
وأوضح هنري كيسنجر : “وجهت واشنطن رسالة قاسية لمصر، ولا أذكر أننا أرسلنا مثلها لسورية، وأعلنّا عن زيادة الضغوط الدبلوماسية لوقف أعمال العنف، وقمت بتشكيل فريق عمل خاص لاتخاذ القرار بشأن الاستراتيجية المعتمدة، وكان الهدف أنْ يصل الجيش الإسرائيليّ الإسكندرية قبل أنْ تطأ أقدام المصريين سيناء، بغرض وقف القتال، والعودة للوضع السابق، وكنّا مصممين منذ اليوم الأول على منع تحقيق أيّ انتصارٍ عربيٍّ، لأنه سيُفسّر نصرًا سوفياتيًا”.
وأكّد هنري كيسنجر أنّه “مع اندلاع القتال بدأت تأتينا التقارير الميدانية عن نجاح المصريين بضرب خط بارليف، والتسلل إلى سيناء بأكثر من مائة ألف جندي وأربعمئة دبابة ووحدة كوماندوز، فيما فقدت إسرائيل بالأيام الأولى للحرب 200 مقاتلة يوميًا، وأسر العديد من جنودها، دون أنْ يتوفر لقواتها الجوية رد حقيقي على صواريخ إس.إي 6 السوفياتية، بل تمّ إصابة وأسر عدد من الطيارين، وتعرّضت أرتال مدرعاتها في سيناء لحالة اضطرابٍ نموذجيٍّ”.
علاوة على ذلك، بدأت التقارير تتحدث عن إصابة الحكومة بالذهول، وأوشك وزير الحرب موشيه ديان ورئيسة الوزراء غولدا مائير على الانهيار، وباتت الحاجة ماسة لاستبدال الطائرات التي تمّ إسقاطها بالذخيرة، واستكمال النواقص في الساعات الأولى من الحرب، فضلاً عن عزلة إسرائيل عن العالم، حينها أدركت النخبة السياسية الإسرائيليّة مدى أهمية تأثير كيسنجر في تحقيق التحول المطلوب كونه شغل في الوقت نفسه أهم منصبين في إدارة نيكسون: وزير الخارجية ومستشار الأمن القوميّ.
هنري كيسنجر أردف قائلاً إنّ “القطار الجويّ من واشنطن للكيان غيّر شكل الحرب وخريطتها، عقب طرح مسألة تجديد الإمدادات، مع العلم أنّنا بدأنا المناقشات حول الحرب بافتراض أنّ التفوق العسكريّ هو لصالح إسرائيل، ولم نأخذ على محمل الجدّ مطلقًا احتمال اضطرارنا للتعامل مع الحرب التي ظهر السوفييت يتمتعون فيها بالأفضلية، وعندما أصبح الأمر واضحًا لنا، بدأنا المناقشات حول إعادة تزويد إسرائيل بالمعدات، رغم معارضة وزارة الدفاع بشدة لذلك، ولهذا اقترحنا على إسرائيل أنْ ترسل طائرات، ونقوم بتحميل المعدات عليها، وهي معدات عالية التقنية تستخدم فورًا”.
وتابع: “وصل مكتبي السفير الإسرائيليّ برفقة الملحق العسكريّ، ووصفا لي حجم الخسائر الإسرائيلية خلال الـ48 ساعة الماضية، وطلبا بشكلٍ عاجلٍ تجديد الإمدادات، لكني رددت عليهما بالقول، إنّ إسرائيل مطالبة بوقف تقدم القوات المهاجمة على الجبهتين قبل اتخاذ أيّ مبادرةٍ دبلوماسيّةٍ، ووافقت على الطلب الإسرائيليّ بتنظيم قطارٍ جويٍّ على الفور، لكن اتضح أنّ ترتيب إمداده أمر معقد للغاية، وينبغي دراسة التطورات بشكلٍ منطقيٍّ، في هذه الأثناء، بدأت إسرائيل بالتحضير للهجوم على الجولان، وفي الوقت نفسه جرت مناقشة حول اقتراح وقف إطلاق النار الذي طلبته إسرائيل، لكنّي عارضت ذلك بشدة بينما تستمر المكاسب المصريّة في ساحة المعركة، وأولينا أهمية كبيرة لخطر أنْ يُنظَر للأسلحة السوفيتية على الساحة الدولية بأنّها ذات جودة أعلى بسبب نجاحات الجيش المصريّ”.
وشدّدّ هنري كسينجر على أنّه “بعد أسبوع من اندلاع الحرب وصل القطار الجويّ العسكريّ، واستغرق الأمر ثلاثة أيام حتى يتمكن الجيش الأمريكيّ من جمع المعدات اللازمة، ولم يكن هناك حليف محظوظ إلى هذا الحدّ مثل إسرائيل، ولا أقبل ادعاءاتها بتأخير وصوله، لأنّه كان لدينا انطباع بأنّها ستتمكّن بسهولة من إدارة الحرب، وهزيمة الجيش العربيّ، ولذلك جاء رفض السادات لمقترحات وقف إطلاق النار الذي قدمته إسرائيل، لاعتقاده أنّه كان منتصرًا، ويستطيع تكرار النجاح في بداية الهجوم، وضخّ قواتٍ إضافيةٍ في سيناء، لأنّ إسرائيل لا تملك تفوقًا جويًا بسبب بطاريات الصواريخ المضادة للطائرات السوفييتية“.
وكشف أنّ “التغيير في خريطة المعركة بدأ يظهر بعد الهجوم المُضّاد في الجولان، ودفع السوريين لمسافة تصل 40 كم من دمشق، وطلبت سوريّة من مصر تكثيف القتال في الجنوب لتخفيف الضغط بالجولان، وقد حاول المصريون ذلك، لكنّهم فشلوا، عقب تحسين إسرائيل لوضعها في ساحة المعركة“.
وبحسبه فإنّ السادات توصلّ لاستنتاجٍ أنّ الوطن العربيّ يحتاج لجرعةٍ من النصر العسكريّ لتجنب الشعور بأنّ الفشل ضدّ إسرائيل أمرٌ لا مفرّ منه، خاصّةً بعد التهديد العربيّ بمواصلة قطع النفط التي أزعجت بعض حلفاء واشنطن، كاشفًا صراحة أنّه ونيكسون أرادا منذ اللحظة الأولى الاستفادة من الحرب للحفاظ على إسرائيل، ولكن في السياق الأمريكيّ، من خلال وضع حدٍّ للوجود الروسيّ بالمنطقة، “لأنني معني بحماية المصالح الأمريكية، وبالتوصل لتسوية شاملة، وإعادة إسرائيل لحدود 67″، على حدّ قوله.
وأكّد مُعِّد اللقاء النادِر مع كيسنجر أنّ تعهد القائد العّام لهيئة الأركان بجيش الاحتلال، دافيد إلعازار في اليوم الأوّل من الحرب بتكسير عظام المصريين والسوريين لم تخرج إلى حيّز التنفيذ وأنّهما تمكّنوا من إيقاع المفاجأة، طبقًا لأقواله.