كيـف تقـال الحـقيقة
هل يمكن قول الحقيقة في ظل الرقابة الاستبداية دونما عقاب على قولها ؟
أجاب الكاتب المسرحي الألماني ” بريخت ” ذات يوم و هو المعارض لنظام الحكم النازي على هذا السؤال بأن ذلك ممكن في مقالة طريفة له تحمل هذا العنوان : ( خمس طرائق للإحتيال على قول الحقيقة ) أما الكتاب العرب كما يبدو فقد تفوقوا في هذا السباق إلى إبتكار عشيرات الطرائق كما في أساليب الترميز و استخدام الخرافة أو الأسطورة و الإسقاط التاريخي و الفانتازيا و الغرائبية و غيرها من أساليب لتهريب الحقيقة في مواجهة السلطات الحاكمة الاستبدادية عبر تاريخنا الأموي فالعباسي فمرحلة الإنحطاط المستمر حتى اليوم ، و كلها أنظمة حكم إستبدادي و في هذا السياق نلاحظ مثلا أسلوب إخوان ” الصفا ” في رسائلهم الشهيرة و مؤلفات المتصوفين مثل الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي و كما في حكايات كليلة و دمنة لأبن المقفع و غيرها من الإبداعات التي حاولت قول الحقيقة بأساليب غير مباشرة و لكن بعضهم لم ينجوا من العقوبات الوحشية كالحرق و السلخ وتقطيع الأعضاء حية بسبب شكوك السلطان و أجهزة رقابته .
ليست أحوالنا الراهنة إذن سوى امتداد لعهود عريقة مريرة غابت فيها الحرية كليا أو جزئيا فامتنع على الناس عامة قول الحقيقة خوفا من العقاب فانعكست نتائج هذه الأحوال على مجمل مرافق التقدم الحضاري و ما أحوال التخلف السائدة حتى اليوم إلا محصلة طبيعية لهذا المناخ الخانق الطويل الأمد . غير أن العجيب في الأمر أن بعض المفكرين ينظرون إلى هذه المسألة على أنها لا تخلو من إيجابيات إذ تدفع الفكر العربي إلى إبتكار أساليب أخرى في قول الحقيقة غير الأساليب التي إبتكرها الفكر الأوروبي الذي ما يزال يشكو من الفساد المستشري في حضارته.
ليس هذا صحيحا و على الأخص إذا ما طال الأمد على استبداد أجهزة الرقابة حتى لقد صار الحذر منها عادة متأصلة في العقول و تشويها راسخا في بنية أدوات التفكير و إلا لما أزدادت هوَة التخلف عمقا و اتساعا كما نلاحظ يوما بعد أخر .
وحدهم الرقباء هم الذين يجب أن يفرحوا بتكاثر أساليب الأحتيال على قول الحقيقة إذ ليس لهذا من معنى سوى أن الحاجة لأجهزة الرقابة سوف تزداد و تستمر أكثر فأكثر أما الحقيقة فسوف تتعقد مظاهرها و يصعب إدراكها و قد تضيع وراء فوضى الأساليب الإحتيالية و تكاثرها حتى باتت أشبه بالأهداف المقصود قولها أكثر من الحقيقة نفسها التي صارت حقيقة أخرى ضائعة .