كيف تمنح الروايات الجوائز؟
إذا عرضنا طعامًا مكسيكيًا بمكوّنات حرّيفة على امرأة عربية اعتادت أكلات مطبخها المنزلي ولا تحب النكهات الحارة؛ فيمكننا بالطبع – بنسبة نجاح كبيرة – التكهن بأن تقييمها لهذا الطبق سيكون سلبيًا. وهو ما لا يمكن لخبير أطعمة أن يقرّه بشأن الطبق نفسه، حتى وإن لم يوافق ذوقَه الخاص.
في هذه المساحة شديدة الحساسية، بين الذوق الخاص، والتقييم وفق معايير صالحة للنقاش، علينا أن نتحدث باستفاضة حول الأدب لننتهي من أزمة حيرتنا بين ذوق القراء وتقييم لجان الجوائز، الحيرة التي تتجدد مع كل إعلان نتائج جوائز مسابقات الأدب العربي، خاصة في “الرواية” التي اتسع تعريفُها ليشمل تقريبًا كلَّ فنون الكتابة.
الهدف إيضاح الفروق الضرورية بين الذوق القرائي من ناحية، ومعايير الحكم على رواية لتنال جائزة محددة من ناحية أخرى؛ إذ أن الأمر الأخير – في ظني – معطل إلى حد ملحوظ في منظومة جوائزنا العربية، ربما لأنه في الأساس غائب عن ثقافتنا نفسها.
في ثقافتنا، يجد كل فرد في نفسه الثقة والمقدرة على إطلاق حكم قيمة، أو حكم جمالي متدنّ على كل عمل لا يناسب ذوقه (لن أستخدم “يفهمه” وإن كانت صحيحة؛ فاللغات لا يمكن التواصل معها من دون فهم، وكما أن عدم فهم لغة من اللغات ليس حكمًا سلبيًا على من لا يفهمها، فالأحرى ألاّ يكون عدم فهم شخص لغة ما حكمًا سلبيًا عليها، والفنون والآداب لغات تحتاج إلى فهم).
في ثقافتنا من السهل إطلاق حكم قيمة سلبي على ما لا نفهمه، لمجرد أننا لم نفهمه، حتى ولو جاء الحكم من باب المزاح والاستخفاف “هذه الأشياء ليست لنا” مثلًا. وهو حكم سلبي مهما تغّلف بالسُّخرية من النفس في مقارنتها بمن يفهمون “هذه الأشياء”.
أمام الإبداع، بوصفه لغة، تجب التفرقة فيه بين موقفين: الموقف الأول موقف القارئ الذي يحق له أن يحب أو يكره، يفضل أو لا يفضل، يرتاح أو يستاء، وفق معايير ذاتية (من دون مطالبته عادة بتفسير الأمر، أو تحليل دوافعه، أو إيضاح معاييره). والموقف الآخر موقف المحكِّم – وهو أدق من موقف الناقد بمراحل – فالتحكيم احتكام إلى معايير أفرزتها خبرة عامة تتعلق بالمجال أو بالفن أو بالصنعة أو بالمهنة، بشكل يُضيّق مجال الخلاف إلى أضيق حدود ممكنة. فلا يصح أن يرتبط التحكيم بذائقة شخصية أو حتى بذائقة نقدية (مزيج من الذوق والثقافة الشخصيين ومدارس النقد).
لا أستسيغ تقريب الأمر بمثال ميزان الذهب الذي يشاع اللجوء إليه تعبيرًا عن منتهى الدقة، فالذهب لا نكهة له ولا روح، وقيمته في قدرته العملية على حفظ القيمة المادية. والأمر مع الأدب – مهما حاولنا موضعته – لن يغادر مساحة الذائقة، فقط نريدها ذائقة منضبطة بمعايير، هذه المعايير صالحة للتغيير والتطور والاتساع والتقلص، لكن وجودها في حد ذاته ضرورة لا غنى عنها لضبط العملية كلها.
لا أجد مثالًا أقرب لما أريده، أكثر من دور الذواقة الخبير المحكّم الذي تعرفه صناعات ضخمة وعريقة في العالم مثل صناعات النبيذ والشاي. إذا احتكم ذوّاقة الشاي مثلًا في تصنيف الجودة إلى ذوقه الشخصي – المحكوم بتفضيلاته الثقافية والعاطفية – لما استحق أن يكون ذواقة محكمًا.
من الطبيعي والمقبول أن يختلف الناس – بعد انتهائهم من التحكيم والتصنيف – حول ما قاموا بتصنيفه، كل واحد حسب ذوقه الشخصي وارتباطاته الثقافية، ولكن هذا الخلاف والاختلاف مهما زاد لا يؤثر شيئًا في مواضع ما يروقهم شخصيًا من أصناف الشاي على جدول التصنيف الذي انتهى إليه الخبير. ستجد البعض يفضلون صنف الشاي “درجة أربعة” على صنف الشاي “درجة واحد”، فهو بالنسبة إليهم فقط “درجة واحد”، ولكن هذا التفضيل لن يغير من درجة الشاي في جدول التقييم – حسب مواصفاته الفنية والكيميائية والفيزيائية.. إلخ- مقدار شعرة.
قد يكون للمحكّم نفسه ذوقه الشخصي في الشاي الذي يفضّله، ربما هو مرتبط عاطفيًا بالشاي المصنف على “درجة خمسة” من جدوله نفسه، ولكنه يظل في الدرجة الخامسة من دون أدنى تأثير على قراره المهني.
يجوز لجماعة من محكّمي الشاي أو من غيرهم – من باب الافتراض – أن يضعوا جداول تقييم أخرى، وفق معايير مختلفة مثل: الشاي الأكثر مبيعًا في بقعة جغرافية معينة، أو الشاي المفضل لسكان الجزء الجنوبي من الدنيا، أو الشاي المفضل للنساء، أو للرجال، أو لذوي البشرة الغامقة.. إلى آخر ذلك من تصنيفات، على أسس مواصفات المشترين، أو مواصفات الشاي الطبية أو اللونية، أو وفق أيّ تفضيلات تخص شرائح من المجتمع، أو على أسس اقتصادية أو كيمياوية أو صحية، لكن يبقى جدول تصنيف الشاي الأساسي قائمًا إذا قصدنا “الشاي” في نوعه، بلا أيّ ارتباطات خارج النوع.
وجه التشابه بين الأدب والشاي، أن الشاي ارتبط منذ أزمنة طويلة بذائقة البشر، ومع ذلك فإنه يظل أكثر مادية من الأدب والفن، فيسهل توصيفه وتصنيفه، أما الفن والأدب فلا يمكن التعامل معهما من هذه الزاوية بتلك السهولة. إلا أن حديثنا لحسن الحظ ليس عن الشاي، ولا عن الأدب بقدر ما، إنما عن دور ذواقة الشاي ومحكّمه، وكيف لا يستحق هذا الوصف إن هو أخضع حكمه لذوقه – مهما ارتقى – خارج إطار معايير التحكيم المتفق عليها.
يجوز لك إذن أن تفضل الشاي (درجة عشرة) على الشاي (درجة واحد)، وأنت تشربه في بلكونة بيتك. كما يجوز لك أن ترى الرواية “س” بديعة عندما تقرأها مسترخيًا على كرسي مكتبك، أو على كنبة الصالة. ولكن هل هي بالفعل “بديعة” داخل إطار معايير هذا النوع؟ هذا هو السؤال الأكثر صعوبة، الذي يتهرّب كثيرون من الإجابة عنه، لأن المعايير بالفعل شديدة التعقيد، إلا أنها عقدة – في ظني – تنفك تمامًا بمجرد أن يحدد المرء موقعَه من الرواية: قارئ يستمتع حسب تفضيلاته الشخصية وذائقته المرتبطة بثقافته “فقط”! أم ناقد يمزج – بما تيسر له من مهارة – بين ذائقته وثقافته ومدارس النقد ليقول لماذا هذه الرواية بديعة وما الذي ينقصها لتصبح أبدع؟ أم أنه “حكم” يستخرج الرواية من بين عشرات لتنال جائزةً ما وفق معايير ما، عليه أن يكون قادرًا على شرح كيف استوفت هذه المعايير أو فاقتها فاستحقت الفوز؟ هنا المدخل الوحيد – كما أراه – للإجابة عن هذا السؤال المعقد.
العقدة تنفكّ حين تتعامل مع الأدب كخبير، أي أن تُنحّي إلى أبعد حد ممكن ميولك وتفضيلاتك الشخصية، إلا ما تَلاقى منها بطبيعته مع حدود معايير الحُكم. وحدود الحكم على الأدب بلا شك لن تكون في وضوح حدود تقييم أنواع الشاي وصراحتها، ودعك من بديهيات القواعد اللغوية والنحوية، أو حزمة الصواب والخطأ التي لا خلاف عليها إلاّ اجتهادًا؛ فهي أمور ليست في حاجة لكثير نقاش. ولكن هل يجوز – مثلا – الحكم على رواية بالأفضلية من دون اعتبار المنجز السابق عليها، أو المعاصر لها، في نوعها وطرحها وتوجهها؟
هل يجوز الحكم على رواية بالأفضلية من دون اعتبار أحد أهم مكوناتها، وهو الخيال، ومدى ما قدمته فيه من ابتكار وبراعة في استخدامه؟
هل يجوز الحكم على رواية بالأفضلية من دون اعتبار الحقول المعرفية أو العلمية التي رسم الروائي حكايته وأحداثه فيها؟ يعني هل كان بالفعل على دراية بها أم أنه طعنها من الخلف؟ يعني هل نُفضل رواية طعنت التاريخ من أجل التخييل أم رواية نجحت في التخييل بالإضافة إلى احترام مناهج البحث في التاريخ، أو على الأقل من دون المساس بحدوده العلمية؟ أو هل نفضل رواية طعنت علوم الكيمياء أو الفيزياء – على سبيل المثال – تحت بند الخيال العلمي أم رواية صنعت خيالًا علميًا مبتكرًا عبر معرفة صحيحة بالعلوم التي صنعت بواسطتها الخيال؟
هي مجرد تساؤلات – يمكن توسيعها – من أجل بيان أن إيجاد معايير تحكيم موضوعية للأدب عندما يتعلق الأمر بمنحه جائزة، أمر ممكن ومعقول، بل مطلوب ولا غنى عنه. يمكنكم غزل الكثير من المعايير بالمنطق نفسه، ووضع عشرات الأسئلة التي تصنع إطارً موضوعيًا للتحكيم ومعايير واضحة للتفضيل تتجاوز الذائقة الشخصية، وتحترم مهمة الذواقة والخبير المحكّم، وترسخ قيم احترام مناهج العلم، والإضافة إلى المنجز السابق، وتعلي من شأن الخيال والابتكار والتسلية والتشويق والإمتاع وغيرها من صفات ضرورية في العمل الروائي بوصفه فنًّا، أي وسيلة تواصل تتوسل بالجمال من أجل الوصول.
مجلة الجديد اللندنية