لؤي كيالي.. عاشقاً! (فاضل السباعي)
فاضل السباعي
ثلاثة وثلاثون عاما مضت على رحيله تزيد بما يُقرّبها من ثلث قرن من عمر الزمان، وذِكر لؤي كيالي لا ينقطع، عن أسلوبه المتميّز في الفنّ التشكيلي، وعمّا تأتى له من أن يجعل «الذين يملكون» يتوجّهون إلى اللوحة كاشانية أو آنية صينية…
لم يُقدّر لـ لؤي كيالي أن يتزوج، مع أنّ الحسناوات، شاباتٍٍ وناضجات، كنّ يتّجهنَ إليه ويلتففنَ حوله في كلّ مكان. ويوم كان يدرس في «بوزار» روما، إذا ما صادفته في الطريق امرأة، تلبس مُسُوح الراهبات أو متزيّنةً متبرّجة، صلّبتْ، يُذكّرها هذا الرجل المارّ أمامها بالمسيح، دون أن تدري أنّ هذه القامة السمهريّة قادمة من موطن بلاد الشام، مهد السيد المسيح!
هل كان انجذابهنّ إليه يبعث الزهد في نفسه؟ ولكن ما بال هذه الشابة تسترعي انتباهه وتستهويه!
لم تكن الفتاة، القادمة من باريس كي تؤدي امتحانها بجامعة دمشق، قد سمعت بالفنان لؤي كيالي (ذلك في ربيع 1963)، وهو الذي علا صيته في بلدها وغدا نجما.
زارت معرضا له مع صويحباتها. قدّموها له: ابنة سفيرنا في باريس! رأت الجميع معجبين به، وخاصة من سمّتهم «الحريم»! تقول في مذكّراتها مبرّرة: «لأنه جذّاب وفنان»! وردًّا على سؤال منه أجابت بأنّ هناك «امرأة واحدة» تراها في لوحاته، «هي أمٌّ أكثر من أن تكون حبيبة أو عشيقة!». فرشقها بنظرة، وابتعد!
وبعد «ضياع» بين المعجبين والمعجبات ـ تقول ـ استوقفها عند الانصراف ليدعوها مع آخرين إلى تناول العشاء في أحد المطاعم الليلية. تقول: «ولاحظت أنه كريم، حسّاس، ضائع، يتحسّس من أي كلمة تقال، ثمّ ينساها ليعود إلى «أبعاده الغريبة والمهذّبة»!».
كان ذلك هو اللقاء الأول بين ابنة السفير «الدكتور علي أسعد خانجي» وبين الفنان التشكيلي المتألق لؤي كيالي. وتعدّدت اللقاءات، يُبدي لها فيها اهتماما يختلف عما يُظهر نحو الأخريات… ذلك كان في أيام امتحاناتها بكلية الحقوق، التي لم ترسب فيها!
بالأنوثة الفيّاضة، والصبا الريّان، والأحاديث عن الفنّ الجميل، والصراحة الأنيقة… أثّر كلّ منهما في الآخر. تغيب عن دمشق، ثمّ تعود. ولكنها، في يوم استثنائي (الأحد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1966)، يتصل بها ويدعوها لسماع فيروز.
تقول فيها عواطفُ المرأة… تكتب:
«وصلنا إلى مسرح المعرض، وأنا لابسة «تايّور غيبور» أبيض، ورأيت معظم رفيقاتي والغََيرة تُطلّ من أعينهنّ. ولقد بهرني تهذيبُه الرفيع، وبهرتْه – كما تصورت – عفويّتي وصراحتي. طربنا لغناء فيروز التي نحبّها كثيرا، ولكني رأيت لؤي يحبّّ فيروز أكثر مما يحب صوتها، يحب حركاتها، يحب ـ كما قال لي ـ «حزنها العميق النبيل»، يحب شعرها الأسود وغطاء رأسها الأبيض، يحبها كما يحب طفلٌ أمَّه… هذا ما لاحظته ولم أستطع أن أبوح له به.
«خرجنا من المسرح، وأَقلّني بسيارة حتى البيت، وقال لي: «لا تحسبي أني لا أعرف بماذا تفكرين!»، وأشار بيده بحدّة: «لن أقول لك شيئا الآن، ولكن عمّا قريب، في هذين اليومين!»، ومضى».
لا يخفى على دارس لؤي كيالي أمران:
÷ أنه رسم نفسه مرةً شبيهًا بالسيد المسيح، وإنّ الشبه ـ كما بيّنّا ـ ملحوظ على نحو ما تخيّل فنانو عصر النهضة يسوع، الطالعَ في بلادنا المقدسة.
÷ وأنه كثيرا ما تجلّت في لوحاته صورة الأمّ، وما يستتبعها من عطاءات الطفولة: من أطفال يرضعون الثدي، وأولاد مشرّدين يبيعون أوراق اليانصيب على قارعة الطريق أو يمتهنون مسح الأحذية.
في التعليق على الأمر الأول، أنّ ذلك كان من فناننا المبدع حدسًا وإلهاما، وقد انتهت حياته باحتراق الجسد بدلا من الصلب، وفي كلتا الحالتين عذابٌ أليم.
وفي تفسير الثانية أنه حُرم من أمّه طفلا، بالانفصال بين الوالدين ومسارعة الأم إلى الزواج ما جعل العودة مستحيلة، فتجلّى حنين الابن إلى الأمّ في فنّه، وبَعُد في مضماره فشخّص الطفولة تَرضَع و«الولدنة» تتشرّد.
هل أقول في حقّ خَرِيجة الحقوق، «أمل خانجي» (التي تسنّى لها أن تلتحق بالسلك الديبلوماسي)، إنها، وهي في مقرّ وزارة الخارجية بدمشق، قد استطاعت، خلال تداولها الحديث مع لؤي كيالي عن هذين المعنيين، أن تَنْشدّ إلى الفنان الشاب وأن تشدّه إليها، فتَلوي عُزوفه عن الزواج، ويشرعا في تبادل الحبّ النقيّ الجميل؟
أقول: كنت قد التحقت بوظيفتي الرسمية بدمشق (منتقلاًً من مدينتي حلب، التي هي مدينة لؤي) في شهر شباط/ فبراير 1966، ونزلت في بيته، بيت نسيبي عمّي «حسين إسحاق الكيالي، أبو لؤي». بدأت ألحظ في تصرفات لؤي ما ينِمّ… ولكني، بعد أن سكنت في صيف ذلك العام وبالمصادفة في بيت قريب جدا من بيته في «حي العفيف»، بدأت تلوح لي عوارضُ متزامنة مع ازدهار عواطف الحبّ بينه وبين الديبلوماسية الشابة «أمل خانجي».
في مذكّراتها، التي قدّمت إليّ نسختها الخطيّة الفريدة (بعد عشرين عاما، وعلى وجه التحديد في 1986)، روت أمل حكاية هذا الحبّ يومًا بيوم، بدقة أنثى محبّة وبشاعريةٍ رفيعة المستوى (وهي تكتب الشعر المنثور، وأصدرت في ذلك قبل سنوات ديوانا)… كشفت في هذه الأوراق عن تفاصيل مرهفة لما كان بينها وبين لؤي من لقاءات، في بيت أسرتها (غربيَّ المالكي) وفي المنتديات الليلية.
لقد تبيّن للفتاة، مثلما اكتشف والداها، غرابةُ في التصرفات. من ذلك أنه جاءها يوما يقول: «هناك أمر ربما لا تعرفينه عني، إني إنسان «متقلِّب»، وأخشى أَلاّ أُسعدك!… (وأيضا): أنت امرأة غيور، وأنا متقلّب.. لذا علينا أن نتزوج غدًا، بشكل سريع، نذهب «خْطِيفة»!».
في البدء ـ تقول أمل ـ «ظننتُه يمزح، ولكنه أخذ يتكلم بحدّة: «أريد منك أن تفعلي هذا من أجلي»، قلت: «لماذا خْطيفة إذا كان والدي لا يمانع؟»، قال: «كي أرى إلى أي مدى أنت مستعدّة للتضحية!»… ورجعتُ إلى البيت أبكي!».
ودعوني أذكر هنا، ما كنت أوردته في محاضرتي «لؤي كيالي ـ المأساة» («النادي العربي بدمشق»، مساء 24-4-1979)، من أني تلقيت، فجر يوم من تلك الأيام العصيبة، مكالمة هاتفية من عمّي، يلتمس مني أن آتي إليهم فورا فإنّ ابنه يريد لقائي. وهناك رأيته متكوّمًا في سرير، في غرفة داخلية (غير مرسمه الرحيب المطلّ على رصيف الشارع، الذي اعتاد المبيت فيه)، قال وكأنه يُفضي إليّ بسرّ: «إنهم يريدون أن يقتلوني!»… فأدركت أنّ الصَّدْع قد حزّ حتى الأعماق!
تحت وطأة هذه الخواطر والأحاسيس أنجز لؤي لوحات لمعرض موعود، رسمها بالفحم، وعلى ورق، كبيرة، تمثّل مشاهد قتل واحتراب، وسمّى المعرض «في سبيل القضية»، افتُتح في المركز الثقافي بأبو رمانة يوم الرابع والعشرين من نيسان/ ابريل 1967 (قبل نكسة حزيران، وليس صحيحا ما أشيع من أنّ النكسة هي التي صَدَعته). فانتهزها الشانئون المغرضون فرصة وشنّوا على فنّه الجديد حملة ندّدوا فيها بالمعرض.
بعد ذلك اليوم دخلتُ مرسمه على حين غرّة، فرأيته يمزّق لوحات معرضه «في سبيل القضية» ومجموعة لوحات «الإنسان في الساح»! اعترضت، هجمت، أمسكت يديه… وهو يتابع التمزيق (وليس الحرق، كما أشاعوا!)… ومنحني بعد إلحاح لوحة، غير ممهورة بتوقيعه، هي إحدى مسوّدات «الإنسان في الساح» المنفّذة بالحبر الصيني!
ثم توالت الحوادث والأحداُث. صحبناه في مرتين إلى «مستشفى رأس بيروت» للمعالجة بعناية الدكتور المتخصص علاء الدين الدروبي (صديق العم طه إسحاق الكيالي بحلب)، فكان يتماثل ثم ينتكس: إنها آنية الكريستال المصدوعة! وعولج بعد اليأس في حلب. استأنف الرسم، وتوقف، ثمّ عاود، وأبدع إبداعا عاليا… إلى أن توقف فيه نبضُ الفنّ ونبض الحياة معا، محترقا في فراشه، منتقلا إلى جوار ربّه ضحى الثلاثاء السادس والعشرين من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1978، في مستشفى حرستا العسكري القريب من دمشق… (وإنّ عندي ما يستحقّ الكتابة والقراءة في ظروف احتراقه، مختلفًا عن كلّ ما هو شائع).
وأما الحبيبة المفجوعة، فقد اختتمت مذكراتها… تقول في يوم 13 حزيران/ يونيو 1967:
«ذهبت أنا وأمي إلى بيته لزيارة شقيقته المريضة، ولكن في الحقيقة كان هو المريض.
«لأول مرة أراه، وهو شاحب الوجه، مرهقًا، وكان مهذّبًا كعادته، باردَ التهذيب، صامتًا لا يتكلم، حتى كأنه غير موجود! (…..) وعندما أوشكنا أن نذهب، طلب من أخته أن تُقدِّم لنا «عصير البرتقال».
«وساعة الوداع قال لي: «أنت، يا أمل، لست كباقي النساء، أنت فوق البشر!».
«لدى سماعي هذا الكلام أحسست أني أُودِّعه، أتركه لعالمه.. إنه ليس هنا.. حتى جسده بدأ يتبدّد، نَحُلَ، فكأنّ جسده ليس ملكه.. وكأنّ صوته لم يعد له.. أو كأنّ هذا الرجل نزل بالغلط إلى هذا العالم.. هو منّا وليس منّا.. له التهذيب، والكرم، والحساسيّة، والشفافيّة…».
ثمّ تقول: «ومرّت الأيام….. رأيته في حلب جالسًا في مقهى صغير، مررت من أمامه، لم يرني، لم يكن يرى أحدا. خرج من المقهى، نظر إليّ طويلاً، ثم مضى».
وتقول أخيرا: «أحببتُ لؤي كيالي كإنسان، ولم أحبّه كرجل.. لا أدري لماذا؟ ليس لأنه ليس رجلاً، فكلّه رجولة وكرم ونبل.. ولكن لأنّ صفة الإنسانية تُعمينا عن رؤية شيء آخر فيه غير إنسانيته..
«أحببتُه كإنسان، ربما لأنّ الحبّ هو أيضا جسد.. ومع لؤي كلّ شيء يصبح روحًا، روحًا خالصة.. شيئًا غير ملموس، متناثرًا، صعبَ المنال، غريبَ الأبعاد!
«لؤي أيضا أحبّني كإنسانة أكثر ممّا أحبّني كأُنثى.. لذا لم نستطع أن نتزوج!
«كان بيننا شيءٌ مشترك، شفافيّةٌ وروحانيّة قتلتا الشهوانيّة المستحكِمة في الإنسان.. كان يشدّني إلى أفكاره وليس إلى ذراعيه.. كانت عيوننا هي التي تتلاقى وليست أيدينا! لذلك لم أحس غيرةً عليه وأنا الغَيور.. كان يُشعرني وأنا معه بأنْ ليس في الدنيا امرأةٌ غيري.
«أُعجبت به كما لم أُعجب بأحد.. أُعجبت بفنّه وألوانه.. أحببت الصمت في ألوانه، أُصغي إلى همسها في اللوحة، وأفهم لغتها.
«لم يستطع لؤي أن يرسمني أبدًا.. حاول.. قال لي: «من الصعب وضعُك في لوحة.. أنت تخرجين منها.. من الصعب حصرك في لوحة!».
وتختتم: «في بعادك، يا لؤي، زدتَ لؤلؤةً في بحر أحزاني. أذكرك دائمًا، وأبكي عليك».
صحيفة السفير اللبنانية