لا تهزأ بالأمل
“سر جمال العتم أنه يخفي قمراً في مكان ما”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان علينا أن نتأقلم مع الحرب، وكلمة نتأقلم ملتبسة فهي تعني “حيث أنت كن ابن ظرفك الإقليمي الصغير”. الأفضل القول كيف نعيش، نحن السوريين في هذه المحنة العظمى؟ السوريون ليسوا متشابهي الظروف. لكن الحرب تشبه نفسها. إنها تنتزع، بآلاف الطرق، سلام الحياة وسلامة البشر.
وكان علينا أن نعيش نحن الذين بقينا على قيد الإقامة في مربعات الحصار المتوفرة بطعوم مختلفة في هذه البلاد.
منذ البداية كان لا بد من اتخاذ القرار الحاسم: البقاء حتى اللحظة التي تتساوى الحياة والموت، على حافة واحدة. وعندئذٍ يمكنك الرحيل إلى اليأس، أو الموت الشريف.
إنه قرار قائد المصير الشخصي، الرجل الذي فيك، والناس الذين يثقون أنهم سينجحون معك. هل يحتاج الأمر إلى الشجاعة، التي هي بدورها ملتبسة المعنى.
نعم: الشجاعة هي ألا يمنعك الخوف من أداء وظيفة تتعلق بمصير الآخرين… فيصبح الاسم عندئذٍ: “الجبن”. وهو أداة تعريف الشجاعة، معيارياً.
ثمة قرارات أخرى تأتي من المخزون الثقافي… من الأفكار والثوابت، والتجارب، تأتي من موثوقية التجربة الإنسانية. فليس “الأمل” سوى إحدى ثمرات اليأس في لحظة العاجز… وهو تجربة مرّ بها اليائسون واكتشفوا وجودها.
ما عليك، إذن، سوى أن تجعل “الأمل” فكرة جديرة بالاحترام، كإحدى مواليد اللحظة الصعبة، في حياة الناس والأفراد.
“الأمل” ليس الذي يتغنّى به فقهاء التنويع على لحن واحد… وإنما الذي في نص محمود درويش في الحصار: “نفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل… نربيّ الأمل”.
وعندما ماتت حبيبة الشاعر يوسف الصايغ كتب لها قصائد الأمل بإحياء الموتى، فهو عاش معها وليس بعدها، حين ماتت، وهو لم يعترف بموتها… حتى مات.
” اليوم جمعة الأموات،
يذهب فيه الناس إلى القبور.
قومي معي، كي نزور قبرك يا حبيبتي…
وحين يتعبنا البكاء…
نترك عند القبر،
إكليلاً من الزهور”.
عندما تقرر البقاء في زمن الحرب في بلد الحرب، ويصبح الوطن، فكرة، ويعلو كي تراه جريحاً وممزقاً ودامياً ودامعاً… يحدق في عينيك طالباً شيئاً وحيداً هو: “النجاة”… فإنك تقرر ألا تجعل شيئاً، أي شيء، ينهار، ما دمت قادراً على رفع يديك إلى أعلى لتسنده… يديك العزلاوين العاريتين. عندما تقرر البقاء في عتم الحرب ومفارقات الأسعار، حيث ترخص الحياة البشرية الناطقة، وتغلو السلعة المادية الصماء… لا بد لك من “فقه الاستغناء” وهي عملية حذف سخيّة لما ليس ضرورياً لتفادي الموت.
لا بد من الاحتفال بمفردات الحياة البسيطة، بإشارات الإرسال التي تبثها أنت في سطور عتمة الذين يراقبون كيف تعيش مرفرفاً كجناح على شباك، تظلله شجرة اللوز: اللوز لا يأبه للحرب.
لا ينبغي أن تنتظر لكي تنتهي الحرب، لتستأنف السير في الطرقات التي أخصبت قدميك، ولكي تجلس في مقهى النوفرة الدمشقي، وتحتسي الوقت والدخان. أو لكي تقرأ كتاباً أهمله السلام الآفل وتراكم فوقه الغبار:
“منذ متى لم أنفض الغبار عن كتبي؟
هي الحرب التي ترسل ألوية الغبار إلى الكتب.
اليوم نفضت الكثير من الغبار عنها.
لمست خدّ هذا الكتاب،
واستمعت إلى دقات قلب كتاب آخر…
وفتحت الصفحات التي أشّرتُ تحت أسطرها بالأحمر.
و… اشتقت إلى جهلي”.
إحدى الصبايا المتابعات لصفحتي كتبت لي عليها:
“شكراً لوجودك…
فمنذ سنوات ما زالت أفكارك إحدى أدويتي المضادة للاستسلام”.
أحدهم كتب لي: أتمنى لك أياماً قادمة أجمل. ولذلك أرجوك ألا تصرخ: “يا الله أخرجني من هذا اليم”.
منذ بداية الحرب اتخذت قراري التالي:
“لأن هناك من يعتقد أن يدك قادرة على العون في تجنيب أحد الهاوية،أو في مساعدة إذا وقع فيها… فما عليك سوى أن تحرص على تلك العضلة الملساء…قلبك. ثمة من يحتاجك”.
وقد أعجبتني هذه الحزّورة البسيطة، فساعدتني:
“ما هو الفرق بين لاعب كرة القدم، وبين الحكم؟
الجواب:
“لاعب كرة القدم … يبحث عن هدف.
حكم كرة القدم… يبحث عن خطأ”