لا جدوى من هذا الحديث.. ولا بد منه !!…
كنت متحمسا و أنا أقص على أحد الأصحاب ما كنت ألاقيه في السوق من غلاء فاحش يزداد بإستمرار بالرغم من هدوء الأحوال …
فإذا بصاحبي يفاجئني بقوله هذا : ” دعنا بربك من حديث الغلاء ..حدثني عن أي شيء أخر ، إلا هذا الموضوع الذي سئمت الشكوى منه لقد صار عادة يومية بين المشتري و البائع أو بين صاحب البيت ومصلح الأنابيب الصحية ..”
توقفت عن الكلام و قد أخذتني الدهشة التي تقول لصاحبها :لا ترع يا صاحبي …لقد تغيرت طباع البشر بعد هذه السنين من الموت و الخراب في حربٍ لم يكن أحد يتوقع حدوثها بهذا الشكل …
ليست المصيبة الآن في أن الدنيا حولنا قد تغيرت إلى دنيا أخرى من التفاهة و القسوة و الضياع ، و إنما لأن طبيعة الإنسان قد بدأت تنمسخ و تلد إنسانا لم يعد يبالي بأية قسوة تنزل به ، و إن لا فماذا يعني الغلاء بالنسبة له و قد حال إلى إنسان آخر؟!
التجار بكل أنواعهم لا يشكون فعلا من الغلاء إلا حين يسايرون المستائين من الغلاء و لكن بلا مشاعر حقيقية ، ذلك لأنهم هم الذين يقودون جملة التغيير هذه التي شوهت الناس إلى هذه الدرجة من اللامبالاة …
كان التاجر يبيع بضاعته بسعر معين ، و عندما نشبت الحرب شرع برفع سعر الحاجة إلى خمسة أضعاف فإلى عشرة أضعاف أحيانا و بهذا الشكل ظل التجار و الصناعي و العامل الفردي المأجور ، أي بإختصار جميع المواطنين غير الموظفين ظل دجلهم هو هو لم يتناقص بل كان يزداد أحيانا …
طبقة موظفي الدولة وحدهم كانوا الطبقة المظلومة إذ ظلت رواتبهم أقل بكثير في نسبتها من نسبة إرتفاع الأسعار التي فرضتها طبقات التجار و الصناعيين و العمال المأجورين لعمل محدد ، فهؤلاء كلهم ظل دخلهم الشهري على حاله ذلك أن رواتبهم ظلت بالرغم من الزيادات البسيطة التي جادت بها الدولة أقل من نسبة ارتفاع الأسعار بشكل فادح و هكذا ظل الموظفون وحدهم هم الذين يحق لهم فعلا أن يشكوا من الغلاء الفاحش إذ ظل دخلهم متواضعا جدا بالنسبة لما كانت تفرضه الأسواق التجارية و الصناعية من أسعار مرتفعة بإستمرار .
أنا مثلا موظف متقاعد ، مازال راتبي التقاعدي يترنح بين العشرين و الثلاثين ألفا ، أي بمصروف تتبخر نقوده في أقل من أسبوع .. فما عسى هذا المتقاعد يصنع في مثل هذا الوضع البائس؟…
الموظف العامل قد يلجأ إلى إرتكاب الغش أو السرقة أو التأمر على الخزينة كي يرفع دخله الشهري ، و لكن ماذا يصنع المتقاعدون ، و الموظفون الشرفاء ؟..و إلى متى ستدوم هذه الحالة ؟ قلت لصاحبي :
– معك حق …” أنا موظف متقاعد..و أنت تاجر..فكيف أجعلك تحس بما ينتابني من مخاوف و هموم …سأصير طبالا على باب أحد التجار الكبار أو خادما له في كل ما يطلب مني كي أستطيع أن أعيش ..وإن لا..فمالعمل؟؟…