فن و ثقافة

لا مناصب في الحب للشاعر رضا أسعد : مُتْعةُ القِراءةِ، مِنْ مُتْعةِ الكِتابة

أحمد م. أحمد

ينشر موقع بوابة الشرق الأوسط الجديدة مقدمة الكاتب أحمد م. أحمد لكتاب الشاعر السوري رضا أسعد الجديد (لا مناصب في الحب) ، نظرا لأهمية الكتاب والمقالة .

 

***

 

في (لا مناصب في الحبّ)، ودون عناء، يلمس القارئُ نأْيَ الكاتب عن الشِّعريّة المصنَّعة، لينحاز بجدارة إلى شعريّة الفطرة-شعريّة الصّوت الدّاخليّ التي تنطق بالعوالم الحميميّة والمتوازنة لرِضا الجميل والعاشقِ، الصّوفيِّ أحياناً، للحياة، وفي تجلّيات هذه الجماليّات يتولّد نفَسٌ من نوع آخر، جديد، على النّصّ السّرديّ العَرَبيّ.

ما مِن سردٍ تقليديّ يصطدم به القارئ، أو يتعثّر بعقدة على سلك اللّغة الدّقيق المتين، وفي الوقت نفسه، ما من ادّعاء وعضلات لغويّة-ثمّة تلك الحساسية المفرطة التي استمدّها رِضا من نشأته، من أرض مدينته السّاحليّة، من الأب والأمّ وصوت الموج-ممّا لم يترك موضِعاً يُذكَر ضمن تَشَكُّله الإبداعيّ لتقاليدَ أميركيّةٍ تترك أثراً ولو ضئيلاً على إبداعِه العَرَبيّ.

وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن الأصالة والاعتداد بأنّ القلمَ قلمُ رِضا، وأنّه (هو- هو) الذي نفض عنه الآباء الثّقافيّين، ومضى في قولِ ذاته العميقة، بادئاً باجتنابه اللّغةَ العصيّة والاستعاضة عنها بما يشبهه من ظلال شفيفة في السّرد، وعدم الاستغراق في (الدّراما العميقة)، لمصلحة الرّؤية، (والرّؤيا) الشّعريّة المتفائلة التي تنتقي من سواد الحياة بُعْدَها الإنسانيّ الإيجابيّ، دون أثر للنّزعة التّوجيهيّة أو (الوعظيّة)؛ ودون استخدام مفردةٍ واحدة مغرقة في التّراجيديّةِ والألم، تتجاوز “مسمار يثقب الـ…”، “نوبة هلع”، “..حضور جنازاتنا..” إلخ! تلك العبارات التي سرعان ما تذوب في النّصّ الآسر وتحتفي بالحياة، كمن يضيف مزيداً من الكاكاو الـمُرّ إلى الكأس ليطيب مذاقُها، وكأنّ بنيان رِضا المعرفيّ العميق يعي أنَّ بلدَنا، والعالمَ، ليسا بحاجة إلى المزيد من الشّواش والشُّؤم.

إذنْ، فليُعِدِ الحياةَ إلى (نشيدِ أنشاد) الكتابة العربيّة التي ما زالت أدبيّاتُها العظيمة تزهو في ظاهرِ كتابته وفي باطنها-الكتابة التي لا تحفر القبور، بل تحرث الصّحارى والسّماء كي تستنبتَ فيهما حدائق الأمل، وتسدّ عطش القارئ بجرعات مكثّفة من (لَذّة النَّصّ) كما تذوَّقْناها في الكتاب، ورأيناها في اسم رضا ومعناه، وأدركناها في دخيلته النّقيّة بالغةِ الصّفاء.

وأمّا ما يرِدُ مِن مشهديّة يلمس فيها المرءُ بعض القسوة، فسرعان ما يؤنسِنُها المؤلِّف، ويُحيلُها ضمنَ سياق (إنسانيّ رحيم) إلى جملةٍ شعريّة يستسيغ القارئ تناوُلَها، وذلك يعود لحِرَفيّة الكاتب وحساسيته، واستمتاعه بالجمال، ثمّ مقدرته على استئصال النَّشاز، فالـ (حزمة) الشّعريّة متعدّدة الطَّبقات هي جزء صميمٌ من خطابه الإبداعيّ المتفرّد-وهنا أؤكّدُ أنّ كلَّ عبارة في توصيف شعريّة البنية النَّصيّة لرِضا تستحقّ في ذاتها أن يُكتَبَ عنها بحث منفصل.

إنّ (إعادة تدوير) الحدث والسّلوك اليوميَّيْنِ المألوفَين وتحويلهما إلى قطعة مِن الفنّ والوجدان، تعود إلى موهبة متأصّلة تنهلُ من إرثٍ متأصّل، لتأتيَ الفِقْرةُ، أو الجملة الختاميّة، وتحوّل النَّصَّ إلى نشيد من الغبطة، وهنا أيضاً نستذكر (لَذَّة النَّصّ)، فقراءة نصّ بلا لَذّة هو ضرْبٌ من جَلْد الذّات.

بعد عقود طويلة تغرَّبَ خلالها عن العربيّة، يكتبُ صديقُنا الغالي بلغةٍ عربيّة ليست سليمة نَحْويّاً فحسبُ، بل مشحونة بأسلوب يشي بأنّه يَسْكنُ اللُّغةَ، وتَسكنُه اللُّغةُ، “..لأنّني لم أهجر، بل انتقلتُ، وللانتقال تعريف أجمل..” على حدّ قوله.

في هذا الكتاب، كلّ نصّ، وكلّ فكرة، كما كلّ ظلٍّ تحتيٍّ عميق، وكلّ إحالة، تتشبث بالذّاكرة وبالـ DNA الرّوحيّ للقارئ، وتتجذّر في كيمياء وجدانه، ما يؤكّد أنّ كلَّ نصٍّ وفكرة وظلٍّ من رِضا ينبع من وجدانه، وعَبْرَ ذلك يتشكّل (الوجدان الجمعيّ) ذو البُعْد الإنسانيّ والشّموليّة المعرفيّة، كما يترك بصمتَه الكونيّة ويذيبُ ذاتيّ الكاتب والقارئ (القارئ مؤلِّف آخَر كما يقول بورخيس)، في البشريّة الآخذة بالتَّصدُّع.

دواءُ العالمِ هو متعة القراءة، التي تأتي من متعة الكتابة.

يا الصَّديقُ والقريبُ الأجمل، أحببتُ كتابَكَ، لأنَّهُ صنْوُكَ، فأسميتُه: (الكتاب) .

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى