لجوء الشعراء إلى الرواية صحوة إبداعية أم هروب من الشعر؟
استقطبت الرواية كجنس أدبي الكثير من الأقلام، أثروا عوالمها وقدموا فيها تجارب لافتة، ضخت في المدونة الأدبية العالمية نصوصا خالدة ومؤثرة. ولم تفقد الرواية بريقها حتى مع دعوة البعض إلى موتها منذ عقود، حيث ما زالت تنمو وتتجدد دون أن تعرف حدودا نهائية لها، حتى باتت اليوم متربعة على عرش الأدب.
ليس أمرا جديدا انتقال الشعراء من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، فهناك شعراء كبار فرنسيون أو بريطانيون أو ألمان أو غيرهم اقتحموا عالم الرواية، وفيه أتوا بما يفتن ويثير الإعجاب. وربما كان غوته وفيكتور هوغو من أعظم هؤلاء، ولا يمكننا أن ننسى أيضا روائيين كبارا بدأوا حياتهم بكتابة الشعر مثل جيمس جويس، صاموئيل بيكت، ويليام فوكنر وغيرهم. ثم انتقلوا إلى عالم الرواية، ليظلوا فيه حتى النهاية.
أما عندنا في العالم العربي، فظاهرة انتقال الشعراء إلى كتابة الرواية أمر لم يسبق له مثيل في الأدب العربي المعاصر. به تفاجأ القراء والنقاد على حد سواء، حيث بات ظاهرة ملفتة للانتباه.
• خفوت الشعراء
هناك شعراء من المشرق مثل عباس بيضون، وعبده وازن، وأمجد ناصر، وعبدالقادر الجنابي، ومن المغرب العربي مثل المنصف الوهايبي، وحسن نجمي، وياسين عدنان، ومحمد الأشعري، لمعوا في عالم الشعر. لكنهم تحولوا فجأة إلى روائيين. ومن بين هؤلاء من كشف عن موهبة لا بأس بها في هذا المجال.
بإمكاننا أن نحدّد أسباب هذا الانتقال من الشعر إلى الرواية في العالم العربي، ونرده إلى انتشار الجوائز الرفيعة التي تعنى بهذا الجنس الأدبي والتي تكاثرت خلال العقد الأخير مثل جائزة البوكر، وجائزة الشيخ زايد، وجائزة كتارا. ثمّ إن اختفاء الشعراء الكبار الذين كانوا قادرين على ملء الملاعب الرياضية، والقاعات الفسيحة من أمثال نزار قباني، ومحمود درويش، أفقَدَ الشعر بريقه القديم، وجماهيريته. كما أن الشعراء الجدد أصبحوا ينفرون من القصيدة الجماهيرية تلك التي تنشغل بالهموم السياسية والاجتماعية وبالقضايا الكبيرة، وباتوا يلجأون إلى عوالمهم الداخلية لتكون المصدر الأساسي للقصيدة.
الرواية قد تكسب من الشعراء المقبلين على كتابتها ما يثريها ويعدد أساليبها، ويغذيها بأدوات فنية غير مسبوقة.
كذلك أغلب هؤلاء الشعراء يكتبون قصيدة النثر التي لا تهز الجمهور العريض مثلما هو حال القصيدة العمودية، أو تلك التي تنتسب إلى الشعر الحر الذي برز في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي في العراق، ليكتسح بقية البلدان العربية في ظرف سنوات قليلة.
وفي المقابل ما زال جمهور الشعر العربي يظهر نوعا من النفور من قصيدة النثر لغموضها في بعض الأحيان، ولكثرة من يكتبونها في أحيان أخرى بحيث يبدو الواحد منهم وكأنه ينسخ الآخر، مكرّرا نفس الهذيان الخافت.
وقد تمكن الروائيون العرب خلال العقدين الأخيرين من أن يملأوا الفراغ الذي خلفه الشعراء الكبار. فالروايات التي يكتبونها تعكس في جلها القضايا المهمة والأساسية المتصلة بالدين وبالجنس، وبالسياسة، وبالهموم الاجتماعية، وبالعقد والأمراض النفسية الفرديّة والجماعيّة. لذا أصبح الإقبال على هذه الروايات مهمّا خصوصا عندما تكون صادمة بجرأتها، وتحديها للمحرمات، ولأجهزة الرقابة بمختلف أنواعها وأشكالها.
• انتصار الرواية
الأمر الآخر الذي أكسب الرواية العربية مكانة متقدمة على الشعر هو فوز نجيب محفوظ في عام 1988 بجائزة نوبل للآداب. فقد كان من المنتظر أن يفوز بها شاعر باعتبار أن العرب “أمة الشعر” منذ القدم. إلاّ أن الأكاديمية السويدية فضلت في النهاية منح جائزتها العالمية لروائي. ومنذ ذلك الوقت بدأت الرواية تنتصر على الشعر. وربما لهذا السبب شرع البعض من الشعراء العرب يتطلعون إلى كتابة الرواية، ولم يترددوا في إظهار إعجابهم بها. ففي السنوات الأخيرة من حياته، لم يخف عبدالوهاب البياتي رغبته في كتابة رواية عما كان يسميه بـ “الجريمة والفساد وانهيار القيم” في العالم العربي.
ولم يكن محمود درويش شاعرا كبيرا فقط، بل كان أيضا ناثرا مرموقا. وهذا ما دلّ عليه كتابه البديع “ذاكرة النسيان” الذي رسم فيه صورة رائعة عن حصار بيروت في صيف عام 1982.
وفي حوار أجريته معه في الدار البيضاء عام 1998، قال لي محمود درويش إنه أصبح يخيّر قراءة الروايات على قراءة الشعر. وفي دواوينه الأخيرة، خصوصا “لماذا تركت الحصان وحيدا”، نحن نعاين تأثير السرد الروائي في العديد من القصائد. كما نعاينه في قصيدته الأخيرة “لاعب النرد”.
وتبدو قصيدة “الوصية” للشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد كما لو أنها سرد لفصل من حياته انطلاقا من طفولته حتى سنوات توهجه الشعري.
وربما لم يخطئ أولئك الذين أشاروا خلال العقد الأخير إلى أن زمن الشعر قد ولّى في حين أن زمن الرواية شرع في البروز والتجلي على أفضل صورة. ثم إن الشعر لا يمكنه أن يصنع وحده ثقافة حديثة بالمعنى الحقيقي للكلمة.
فلا بد من حضور فنون أخرى تساهم في ترسيخ أسس هذه الثقافة، وفي توسيع آفاقها. لذا فإن إقبال شعراء على كتابة الرواية أمر إيجابي، ودليل على صحوة ثقافية وفنية جديدة.
إن لم يكن لجوء الشعراء إلى الرواية هروبا من الشعر، فإن الرواية ستكسب من الشعراء المقبلين على كتابتها ما يثريها، ويعدّد أساليبها ومواضيعها، ويغذّيها بأدوات فنية غير مسبوقة. وبلغة نضرة تخلصها من جفافها ورتابتها وسطحيتها.
كما أن الشعراء سيستفيدون من كتابة الرواية إذ أن الأخيرة ستربطهم بالواقع بمختلف تضاريسه وتجلياته، وسترمّم علاقتهم بالجمهور العريض. كما يمكن أن تزيح عن قصائدهم التصنع، والضبابيّة.
ميدل ايست أونلاين