لغز عزلة الفنانين السورين !: خفايا دار المسنين ..
في آخر حي المزة في الجهة الغربية، وفي شارع يتجه صعودا إلى مزة جبل وحي ال86 ، هناك بناء ضخم نظيف ومرتب وأنيق اسمه ((دار السعادة))، ويعرفه الناس بدار المسنين، يشبه هذا المكان ((دار العجزة)) الخيري أيام زمان، ولكن هويته هنا هي أنه مدفوع الأجر، ولايجرؤ فقير عجوز على الإقامة فيه ..
عندما يدخل الزائر إلى دار السعادة، تواجهه ((المأساة))، وهذا هو بيت القصيد، حيث يتناقض الاسم مع مشاعر الزائر إلى الدار، والغريب أن المقيمين فيها يعبرون عن سعادتهم وراحة بالهم، على عكس حالة الاحباط التي تنتاب الزائر، وهذا يعني أن وراء كل مقيم في دار السعادة قصة!
وفي تقارير تلفزيونية تعرّف المشاهدون على انطباعات أولئك المسنين، وفي واحدة من تلك التقارير بكت المذيعة ((ماريا ديب)) عندما أجابت امرأة عجوز وضعها أبناؤها في ((دار السعادة)) عن أمنيتها في العيد، حيث قالت : أتمنى أن أموت!
فاجأ الإعلام في تطفله على خفايا دار المسنين، أو دار السعادة، فاجأ الوسط الثقافي بأن أسماء هامة أقامت أو تقيم في هذا المكان، وأن أسماء هامة أقامت بها في السنوات الأخيرة قبل موتها، وأحد هذه النماذج هو الباحث الراحل الدكتور فاخر عاقل أحد أهم الباحثين السوريين في علم النفس الذي يجيد العربية والإنكليزية والفرنسية، وله سبعة وعشرون كتاباً من تأليفه، منها قاموسان لعلم النفس، وثلاثة كتب مترجمة.
وعند وفاته عام 2010 نشرت صحيفة الشرق الأوسط تقريرا عنه من دمشق قالت فيه إن فاخر عاقل رحل بعد أن وصل إلى مرحلة وجد فيها «أن الحياة لم تعد ذات فائدة» مع أن قناعته أن «الإنسان يميل إلى البقاء» لكن العقد الأخير من عمره الذي قضاه بعد رحيل زوجته عام 1999، في بيت السعادة للمسنين منحه الإحساس بالاكتفاء من الحياة، ويقول: «حياتي أصبحت خلفي، وليست أمامي، لم يبق لي مطلب في الحياة.. كل ما أريده عانيته» فقد ربى ثلاثة أولاد يعدون بين البارزين في ميدان العلم، أكبرهم أستاذة في جامعة ميشغن، وترأس مؤسسة للعلوم النفسية، وابن طبيب متخصص في مرض الإيدز في لوس أنجليس وقد أصبح خبيرا عالميا في هذا المجال. وابنة ثالثة طبيبة نفسية وأستاذة في واشنطن!
إذا هي ذروة الاحساس بالنهاية، وعندها ترتدي دار السعادة معنى آخر هو ((محطة انتظار))، فلماذا يلجأ الفنانون إليها في الفترة الأخيرة ؟!
الصحفية السورية سوسن صيداوي انشغلت بهذا الهاجس، ومنذ سنوات راحت ترصد زوار ((دار السعادة))، بين فترة وأخرى، فإذا بها تتعرف هناك على الفنان المخرج علاء الدين كوكش، والفنان المخرج رياض ديار بكرلي ، وقبل فترة كشفت الستار عن عزلة أهم رسام للأطفال في بلادنا تعايشنا مع رسوماته هو الفنان ممتاز البحرة ..
لم تنس سوسن السؤال المر : لماذا دار السعادة ؟!
في آخر استطلاعاتها، أجرت حوارا مع رياض ديار بكرلي، الذي أطلقت عليه لقب ((عاشق الدراما الاجتماعية)) الدراما التلفزيونية التي مكنّته من أن يكون أول من يحرّض أو يسلّط الضوء على الدراما العائلية العربية في مسلسل «الأخوة»، فلماذا يذهب عاشق الدراما الاجتماعية إلى دار المسنين بعيدا عن أهله وأصدقائه؟ سألته، فأجابها: ((عندما يصبح الإنسان في مرحلة من العمر يصبح مزاجه صعباً، وبالرغم مما يخطط له الإنسان للمستقبل إلا أننا لا نملك سلطة على الغيب، وبالتفاهم بيني وبين صديقة عمري السيدة «رويدا الجراح» اتخذنا القرار بأن أكون هنا، وأنا هنا ليس لأن هناك اختلافاً أو خلافاً معها على الإطلاق، بل احتراما لرغبتي بأن يكون هناك تباعد… وليس انفصالاً، فوافقت بأن أكون هنا رغم أن الاتصال قائم والزيارات موجودة واللقاءات دائمة))
ونفى رياض أن تكون هذه الدار دار المرضى أو المهملين اجتماعياً، ولكن الحقيقة هي غير ذلك، وقال : (( بصراحة أنا أخلق في غرفتي حياة خاصة بي، فأنا أقرأ وأكتب وأشاهد التلفاز، كما أنني أزور أصدقائي وأتواصل مع الجميع عبر الهاتف واللقاءات، إذا حياتي أعيشها بشكل طبيعي وكل شيء جيد.)) .
نجم الاخراج الدرامي الرائد علاء الدين كوكش يعيش هناك أيضا، وهو ((شخصية تتمتع ببساطة الإنسانية وعمق الفكر. ولد طفلاً مقمطاً بعبق الياسمين الدمشقي، وخطا طفلاً في الأزقة والشوارع الدمشقية، ليترعرع شابا ملهَماً من ثنايا أحجار شارع القيمرية بكل ما فيه من تفصيل يعيشه الحي)) وعندما أخذته الدراما إلى الشهرة كان ((متميزاً بعقلية دراميّة هدفها المجتمع، وإن جاءت كي تصور تاريخاً أو بيئة معينة في زمن معين، أعماله كثيرة وكلُها تتكلم عن نفسها وحاضرة في القلوب ومن ثم الأذهان)) ، ولكن لابد من سؤاله عن عزلته في تلك الدار، وكانت إجابته : ((بسبب الظروف اضُطررت للعيش هنا، بسبب انقطاع الكهرباء والماء والهاتف عن المنطقة التي بيتي فيها، فخرجت واستأجرت بيتا في «المزة» كي أستطيع مواصلة أعمالي ومتابعة نشاطاتي، وبوقتها كان ابني «تيم» معي، وكان معه الحاضنة التي تساعدني برعايته، ولكن بعد أن سافر، الكل نصحني بأن أقيم هنا، وخاصة أن هذه الدار قريبة، وامتدت معي الإقامة فيها، فأنا هنا للعام الثالث وصحيح أنني مرتاح وكل شيء متوافر لي والخدمة ممتازة… ولكنني بانتظار العودة إلى بيتي..))
أما الرسام الرائع ممتاز البحرة ،الذي تربّت الأجيال على عطائه ، ليمنح المجلات والصحف وخاصة مجلتي «أسامة» و«سامر» إبداعاتٍ جديدة في شخصيّات رسخت في ذاكرة الأجيال.)) فكان ((عرّاب شخصيّات الطفولة في مناهج وزارة التربيّة للمرحلة الابتدائيّة: رباب، وباسم، وميسون، ومازن، ويعدّ اليوم الأب الروحي لأجيال وأجيال تعلقت بإبداعاته وتربت على جمالها)) وكان السؤال موحشا :
كم عاماً وأنت هنا في دار السعادة للرعاية؟
يقول ممتاز البحرة : هذه هي السنة الحادية عشرة، بسبب سوء تفاهم بيني وبين أم الأولاد، اتفقنا على الانفصال ولم يكن لدي أي رغبة في الزواج مرة ثانية، وأمر الزواج لي من أساسه محسوم، ثم إنني شخص يعشق أولاده حتى إنني أتذكر تفاصيلهم منذ الصغر حتى الآن.
كم ولداً لديك؟
لدي ثلاثة أولاد، ابنتي «نوال» وهي مهندسة مدنية ورسامة هاوية، وابني الأوسط «محمود» واسمه على اسم أبي وهو دكتور صيدلاني مختص في صناعة الأدوية وابني الصغير «فارس».))
ممتاز البحرة لايحتج. يعيش بطريقته، بل ويعلن: أنه ومثلما عاملت الشخصيّات التي رسمتهما بمحبّة واحترام وإخلاص، كذلك الناس في وطني عاملوني بالمحبّة والاحترام والإخلاص.!!
***
لا .. المسألة تتطلب بحثا آخر ، أهم ملامحه هي حال المبدع عندما يشعر بالعزلة، فهل هي مسؤولية المجتمع والدولة، أم مسؤولية المبدع نفسه.. ؟!
ذلك هو السؤال المحير التي تطرحه ظاهرة دار المسنين ، التي اسمها ((دار السعادة)) !