دمشق الشام أيقونة بلاد الشام والعرب مدينة يفوح منها عبق التاريخ وتتنفس حضارةً امتدت عبر آلاف السنين. على جدرانها وأزقّتها كُتبت فصول من الذاكرة البشرية، وعلى أرضها تخاطبت أبجديات شعوبٍ متعددة، فصارت دمشق مرآةً لالتقاء الثقافات وتمازج الأمم.
ليست مجرد مكان على الخريطة إنها كيان حي يحفظ في تضاريسه وبيوته وعيون الناس تراكماً زمنياً من العطاء والأصالة.
تاريخ دمشق ليس تاريخ حائطٍ أو مسجدٍ أو سوقٍ وحسب، بل تاريخ مجتمعٍ عرف كيف يستقبل المخاطر والغرباء واللاجئين بأناملٍ من وُدّ.
كانت دائماً محطةً للزائر والفارّ والباحث عن مأوى ولم تكن تُغلق أبوابها أمام محتاج ولا تُميّز بين قادمٍ من رِكب التجارة أو من أمكنةٍ بعيدة. هذا الطابع الإنساني جعل من دمشق مصبّاً لتلاقح الحضارات: آراميون، كنعانيون، عَبَريون، رومان، بيزنطيون، ثم العرب المسلمون، فكلٌ ترك بصمته من دون أن يمحو بصمة الآخر.
في قلب هذه المدينة ينبض التاريخ من خلال معالم تُعدّ من رموز الهوية: الجامع الأموي بقِبته المهيبة، أسواق عتيقة مثل سوق الحميدية، والمدينة القديمة بشوارعها الضيقة التي تروي قصص الأجيال. لكنّ القيمة الحقيقية لدمشق تتجاوز الحجر والمعمار، إنها في أهلها مواطنوها الذين انطوت على صدورهم حكايات ومآسي وأفراح وفي سلوكها الذي كان دوماً أغنى من مجرد مؤشرات القوة أو السياسة. لقد علمت دمشق أهلها والوافدين عليها قيمة الحِمى والضيافة والتعايش، فكبرت سمعةُ أهلها بأنهم أهل كرمٍ يحفظون الأجلاء وتواسيهم.
شهد التاريخ أيضاً تجارب قاسية مرت عليها ، حين واجهتها أمواج الغزو على مرّ العصور ومن ارزلها كانت هجمات المغول بقيادة هولاكو التي تركت أثراً في منطقتنا كلها بلاد الشام كلها من دون استثناء . ومع ذلك ظلّت دمشق تصمد وتصمد على جراحها من قِبَل القوى العابرة بروح أرضها وسكون شعبها، الذي تأنس بترابها وبلطافة وأنس طبيعتها والتي احتوت وتخطّت محنها عبر مرونتها الثقافية والاجتماعية كل من رصد لها الشر والاذى . لا تُكتب ملاحم المدينة بعنفها فحسب، بل ببطولاتها التي تبدو أحياناً هادئة، فكان احتضانها للمنكوبين، واستمرارية حرفها وفنونها، وصلوات الناس في المساجد والكنائس التي لطالما كانت سواحل أملاً وروحاً.
لا يمكن الحديث عن دمشق دون التوقف عند دورها في التاريخ الإسلامي، حيث احتضنت مراحل مهمة من الفكر والدولة والثقافة. صارت مركز إشعاع للعلماء والفقهاء والشعراء، و فيها كانت خطوط الحضارة التي انتشرت لاحقاً إلى شتى الأقطار. هذا الانصهار بين الماضي وعطاء الحاضر خلق حالة من الاستمرارية لامثيل لها ، فدمشق لم تكن متحفاً جامداً، بل مدينة تطارد الزمن وتُعيد إنتاج نفسها عبر ما يبقى من أخلاق وتقاليد.
لكن مع كل ذلك، يبقى السؤال الأخطر كيف نجازي هذه البلد المعطاء؟ كيف يُقيم من لم يعرف لها صفاء النية أو حرمها من الوفاء؟ لا يليق أن يكون رد الجميل بأيدي الخيانة أو الاغتصاب؛ فالمدينة التي منحت الملجأ والفرَج لا تستحق أن تُرد إليها بالعنف أو الإهمال. من اعتدى عليها أو ظنّ أنه قادر على نقض تاريخها عليه أن يَعِدُ بأن دمشق أعمق من أي عابر. هي أكبر من حرارة لهيبٍ عابر، وأبقى من وعدٍ خائب.
الدرس الذي تقدّمه دمشق للعالم اليوم هو درس في الإنسانية ولكن من ظلم الشام ولم يعطها ماتستحقه في حياته ستظلمه الأقدار والايام ، وحين تنهار المعايير السياسية أو تشتد عليها الضغوطات الاقتصادية والعقائدية، تبقى الروابط الإنسانية فيها أقوى وأعمق من اي اعتبار. هي المدينةٌ التي ترسّخت فيها قيم التسامح والاحتواء، وهي ليست مجرد علامة زمنية على خريطة الماضي، بل نموذجٌ حي على أن التاريخ يمكن أن يكون ذخيرةً تحفظها الأرض والناس معاً. لذا فالاعتبار الأول لكل من يعتدي أو يمرّ مرور الكرام هو أن دمشق ليست ملكاً لأي طامع أو غازي إنها ملكُ تاريخها وناسها وروحها.
واخيرًا وليس اخرًا ، لابد من القول إن دمشق برغم كل ما لاقته من تقلبات تظل أيقونة الشام والعرب ، مدينةٌ تتكئ على عبق التاريخ لتمنح العالم درساً في الصمود والكرم والعبر والحضارة.
احترامها واجب مقدس وحمايتها ليس مجرد فعلٍ أخلاقي، بل واجبٌ حضاري يليق بقيمةٍ أفرزتها قرون من العطاء. فليكن للعالم أن يقف أمامها بإجلال، ولمن زارها أو لجأ إليها أن يجد في صدرها ما لم يجده في مكانٍ آخر بيتاً كبيراً يحمل عبق الأجداد ودفء وألم المستقبل وقدسية الارض والتاريخ العريق المجيد .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة



