لماذا تَجِد مُبادرة كيسنجر “المُطوّرة” لتجنّب الحرب العالميّة النوويّة الثالثة أصداءً إيجابيّةً في أوروبا وروسيا؟
مع اقتراب الحرب الأوكرانية من انهاء عامها الأول ودخولها الثاني، بدأت الأصوات تتعالى في الغرب بضرورة البحث عن تسوية سياسية تؤدي الى هدنة او وقف اطلاق النار، والبناء على المتغيرات الاستراتيجية بما يؤدي الى تقليص الخسائر البشرية والمادية الى حدودها الدنيا.
الأفكار التي وردت في المقالة التي كتبها هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ونشرها امس الجمعة في مجلة “سبكتاتور” البريطانية، وحملت عنوانا رئيسيا يقول “كيف نتجنب حربا عالمية أخرى”، باتت الأكثر تداولا، حتى ان ديمتري بيسكوف الناطق باسم الكرملين، قال ان الأفكار التي وردت فيها باتت موضع دراسة، ووصف كيسنجر “بالخبير الموهوب”.
قبل إعطاء رأي في هذه المبادرة وفرص نجاحها، يمكن تلخيص أفكار كيسنجر الجديدة في النقاط التالية:
أولا: تسريع التوصل الى وقف اطلاق نار من خلال المفاوضات، وعدم الإنجرار الى حرب عالمية ثالثة، والاستفادة من تجربة الحرب العالمية الاولى والاخطاء التي ارتكبت فيها وأدت الى إطالة امدها وتعاظم خسائرها.
ثانيا: حلول الشتاء القارس، وفشل الطرفين المتحاربين في الحسم العسكري، يحتم الحل الدبلوماسي وفي أسرع وقت ممكن.
ثالثا: البناء على المتغيرات الاستراتيجية وإقامة هيكل جديد لاوروبا الشرقية والوسطى يعترف بروسيا قوة نووية كبرى ودمجها في هذا الهيكل.
رابعا: اجراء استفتاء في الأقاليم الخمسة التي ضمتها روسيا بإشراف الأمم المتحدة من اجل حق تقرير المصير.
خامسا: الحرب العالمية الأولى كانت نوعا من الإنتحار الثقافي الذي دمر أوروبا ومكانتها، والحرب العالمية الثالثة ستكمل هذا التدمير، ويجب تجنب معاهدة مماثلة لمعاهدة فرساي التي أدت الى الحرب العالمية الثانية.
سادسا: تأكيد حرية أوكرانيا، في أي اتفاق، او معاهدة قادمة بعد التوصل الى السلام، جنبا الى جنب مع الاعتراف بالدور التاريخي لروسيا مع التسليم بأكذوبة “الحياد” بعد انضمام فنلندا والسويد الى حلف “الناتو”.
ربما تبدو نقاط مبادرة كيسنجر المذكورة آنفا مختلفة عن النقاط الأولى التي طرحها في بداية الحرب، وتضمنت التحذير من هزيمة روسيا، وأخطار هذه الهزيمة على أوروبا والعالم بأسره، وضرورة تقديم أوكرانيا تنازلات ترابية للروس في إشارة الى الأقاليم الأربعة في شرقها الى جانب شبه جزيرة القرم، ولكن هذه المبادرة جاءت تأكيدا غير مباشر لصيغتها الأولى ولكن بصياغة دبلوماسية “كيسنجرية” ذكية.
هذه المبادرة في تقديرنا هي صياغة لما يدور حاليا في كواليس المعسكر الغربي، مما قد يؤدي الى اعتمادها كأرضية لمحادثات سلام في العام الجديد تبحث عن مخرج لإنهاء الحرب، خاصة ان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بصدد إجراء مفاوضات مع نظيره فلاديمير بوتين بالتنسيق مع البيت الأبيض في اقرب وقت ممكن.
أوكرانيا تسير على طريق الدمار، وأوروبا تسير بسرعة على طريق الإفلاس بسبب الازمات الاقتصادية المتفاقمة، وعنوانها الأبرز ازمة الطاقة، وأزمة اللاجئين، وتصاعد الخسائر البشرية في صفوف الجانبين المتحاربين، والداعمين لهما بشكل مباشر او غير مباشر.
العودة الى افكار “العجوز” كيسنجر الذي اقترب من المئة عام من عمره احد الأدلة على حالة “التصحر” السياسي الذي يعشه العالم الغربي هذه الأيام وفشل النخبة السياسية الحاكمة في معظم، ان لم يكن كل، العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن، وهذا ما يفسر تراجعه، وتآكل هيمنته على مقدرات العالم، وصعود عالم بديل متعدد الرؤوس.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية