لماذا حذّر كيسنجر من هزيمةِ روسيا وطالب أوكرانيا بالتنازل أرضيًّا لها
لماذا حذّر كيسنجر من هزيمةِ روسيا وطالب أوكرانيا بالتنازل أرضيًّا لها…. الحرب الأوكرانيّة مُستمرّة، والقوّات الروسيّة تتقدّم وفق الخطّة التي وضعها الرئيس فلاديمير بوتين أيّ انفصال إقليم دونباسك في جنوب شرق أوكرانيا، وقيام جمهوريتين مستقلّتين فيه (دونتيسك ولوجانسك)، ومُقاومة أي مشاريع أمريكيّة بضم 15 جمهوريّة سوفيتية سابقة لحلف الناتو، وإقامة قواعد عسكريّة بصواريخ باليستيّة نوويّة تُحيط بروسيا.
ثلاث نبوءات خطيرة جدًّا حول تطوّرات هذه الحرب ومُستقبلها، والنتائج التي يُمكن أن تتمخّض عنها صدرت في الأيّام القليلة الماضية وتحتّم علينا التوقّف عندها في مُحاولةٍ لاستشراف ما تُخبّئه الشهور والسنوات المُقبلة من مُفاجآت:
الأولى: النبوءة التي جاءت في خطابٍ ألقاه هنري كيسنجر وزير الخارجيّة الأمريكي الأسبق في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي يوم الاثنين الماضي و”حذّر فيها الغرب من مُحاولاته المُستمرّة لإلحاق الهزيمة بالقوات الروسيّة في أوكرانيا لما يمكن أن يترتّب على ذلك من عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد”، وفجّر قنبلة من العيار الثقيل في الخطاب نفسه عندما أكّد أن أوكرانيا يجب “أن تتخلّى عن بعض الأراضي لروسيا”.
الثانية: التصريحات التي أدلى بها الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان الأمريكيّة المُشتركة أثناء خطاب ألقاه بمُناسبة تخريج دفعة من الضبّاط الإحتياط في جامعة برينستون وقال فيه “إن المُواجهة بين الولايات المتحدة من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى، قد تستمرّ لعُقود”، وأضاف “انتصار روسيا يعني نهاية جميع الإنجازات التي تحقّقت مُنذ الحرب العالميّة الثانية”.
الثالثة: تأكيد مليمان بون وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبيّة أن انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، سيستغرق على الأرجح من 15 إلى 20 عامًا، وأما انضمامها إلى حلف الناتو فقد يستغرق وقتًا أطول إن لم يكن شبه مُستحيل، وهذا اعتراف صريح من الحكومة الفرنسيّة بأنّ عدم التجاوب مع مطالب روسيا قبل اجتياح قوّاتها لأوكرانيا كان خطأ، وأن إصرار زيلينسكي على الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي كان خطيئةً كُبرى.
جميع هذه النبوءات جاءت على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة لأنها تصدر عن أصحاب القرار في المؤسّستين الغربيتين، العسكريّة والسياسيّة، ولكن ما ورد في خطاب الدكتور كيسنجر في منتدى دافوس هو الأخطر والأكثر أهميّة، لما يتمتّع به الرجل من نفوذ في الإدارة الأمريكيّة، والرئيس جو بايدن تحديدًا، وبحُكم خبرته الطويلة في الشّؤون الدوليّة والعلاقات بين الشرق والغرب.
كيسنجر الذي كان يقف خلف الإنجاز الدبلوماسي الأمريكي الأضخم في زمن الرئيس نيكسون وتمثّل في احتواء الصين، وإبعادها عن الاتحاد السوفييتي، حذّر الرئيس بايدن من أيّ تقارب روسي صيني، لما يُمكن أن يشكّله ذلك من أخطار على الولايات المتحدة وهيمنتها على زعامة العالم، ولكنّ الرئيس بايدن لم يأخذ بهذه النّصيحة، وها هو باستفزاز الروس ودفعهم لغزو اوكرانيا وحصاره للصين يعمل ربّما دون أن يقصد على توثيق العلاقة بين القوّتين العظميين وتقاربهما، وانخراطهما في تحالف خماسي أو سداسي يضمّهما إلى جانب دول عظمى إقليميّة صاعدة مثل الهند وباكستان وإيران والبرازيل وفنزويلا.
أخطر ما قاله كيسنجر في رأينا في الخطاب نفسه هو “ضرورة أن تتخلّى أوكرانيا عن بعض الأراضي لروسيا”، في إشارةٍ إلى إقليم دونباسك، والتسليم بهذه النصيحة قد يكون المخرج الوحيد والأقل كلفة من الأزمة الاوكرانية في حال جلوس الطرفين المتقاتلين بشكل مباشر او بالانابة أيّ روسيا وأمريكا، على مائدة المفاوضات للبحث عن مخارج لهذه الحرب، والحيلولة دون إطالة أمدها، أو تحوّلها إلى حربٍ عالميّة نوويّة ثالثة مثلما توقّع سيرغي لافروف وزير الخارجيّة الروسي.
الإدارة الأمريكيّة الحاليّة لا تتعلّم من دروس هزائمها، أو عدم انتصارها ونقول الأخيرة تخفيفًا من وطأها على نفوس حُلفائها وخاصَّةً في المنطقة العربيّة، فالقوات الروسيّة تتقدّم على الأرض وتحصد المُدن والموانئ الأوكرانيّة، وتأسر الآلاف من الجنود، وتدمّر القدرات الجويّة والدفاعيّة الأوكرانيّة في الجو وعلى الأرض، ويزداد اقتصادها قوّة وصلابة، بينما ما زالت قوات حلف الناتو تقف بعيدة “فوق التل” تراقب عن بعد، وترفض قيادته فرض حظر جوي على أوكرانيا خوفًا ورعبًا من الرد، ويتردّد الرئيس بايدن في إرسال جندي أمريكي واحد، ويكتفي بإرسال المال والأسلحة الخفيفة ومع كل ذلك، يقول بايدن إنه مستعد للدفاع عن تايوان في حال اجتياح القوات الصينيّة لها في فصل من “التّكاذب” المفضوح وغير المُقنع.
نتّفق مع كيسنجر الذي طالما اختلفنا مع سياساته في الشّرق الأوسط في أمرين أساسيين: الأوّل أن إطالة أمد الحرب الأوكرانيّة سيؤدّي إلى زعزعة استقرار أوروبا وإنهاكها اقتصاديًّا، وربّما تقسيمها، والثاني، أن الوضع المُلائم لاوكرانيا هو الحياد، وأن تكون جسرًا بين أوروبا وروسيا.
أمريكا وحُلفاؤها الأوروبيّون سيخرجون من الحرب الأوكرانيّة خاسرين، سواءً طال أمَدها أو قَصُر، فإن طالت فهذا يعني نزيفًا ماليًّا وبشريًّا ضخمًا، ناهيك عن احتمال تطوّرها إلى حربٍ نوويّة تكون أراضيها ومُدنها مسرحًا لها، وإن قَصُرت فهذا يعني نجاح التحالف الروسي الصيني في فرض شُروطه، وتأكيد هيمنته وزعامته للعالم، وتقسيم أوكرانيا، وضم روسيا منطقة دونباس لنُفوذها، والصين لتايوان.. واللُه أعلم.